فيتصرّف فيهم إِرادته وقدرته وعلمه سبحانه ، فلا يشاؤون إِلّا أَن يشاء اللّه ، ولا يريدون سوى ما أَراد اللّه ، ويتصرّفون في الأَشياء بقدرة اللّه ، فيحيون الموتى ، ويردّون الشَّمس، ويشقّون القمر، كما قال أَمير المؤمنين عليه السلام :
«ما قَلَعتُ بابَ خَيبرَ بِقُوَّةٍ جِسمانِيَّةٍ ، بَل بِقُوَّةٍ رَبّانِيَّةٍ»۱ .
والمعنى الذي يمكن فهمه ولا ينافي أُصول الدِّين من الفناء في اللّه والبقاء باللّه هو هذا المعنى ۲ ، وبعبارة اُخرى : الحجب النورانية الموانع التي للعبد عن
1.بحار الأنوار : ج ۵۸ ص ۴۷ ، الأمالي للصدوق : ص ۶۰۴ ح ۸۴۰ ، روضة الواعظين : ص ۱۴۲ كلاهما نحوه .
2.الطريق الذي سلكه العلّامة المؤلّف ـ رضوان اللّه عليه ـ في كلامه هذا أشبه بطرق أهل الذوق وبياناتهم فلا بأس بالإشارة إلى طريق أهل البحث والنظر ليكون النفع أعمّ والفائدة أتمّ واللّه المستعان :
العالم المادّي عالم الحركة والتكامل ، والنفس أيضاً لتعلّقها بالبدن المادي ، بل اتحادها به محكومة بهذا الحكم فهي لا تزال تسير في منازل السير وتعرج على مدارج الكمال وتقترب إلى الحقّ المتعال ، حتّى تصل إلى ثغور الإمكان والوجوب فعندئذٍ ينتهي السير وتقف الحركة «وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى» ومنازل السير هي المراتب المتوسطة بين المادة وبين أشرف مراتب الوجود ، وهي بوجه تنقسم إلى مادية وغير مادية .
والأُولى : هي المراحل التي تقطعها حتّى تصل إلى حدّ التجرّد.
والثانية : هي المراتب الكمالية العالية التي فوق ذلك وحيث إنّ نسبة كلّ مرتبة عالية بالنسبة إلى ما تحته نسبة العلّة إلى المعلول ، والمعنى الاسمي إلى الحرفي ، والمستقل إلى غير المستقل كانت المرتبة العالية مشتملة على كمالات المرتبة الدانية من غير عكس ، فكلما أخذ قوس الوجود في النزول ضعفت المراتب وكثرت الحدود العدمية ، وكلما أخذ في الصعود اشتدّت المراتب وقلّت الحدود إلى أن تصل إلى وجود لا حدَّ له أصلاً ووصول النفس إلى كلّ مرتبة عبارة عن تعلّقها بتلك المرتبة ، وبعبارة أُخرى : بمشاهدة ارتباطها بها بحيث لا ترى لنفسها استقلالاً بالنسبة إليها ، وإن شئت قلت : بفنائها عن ذاتها وخروجها عمّا له من الحدود بالنسبة إليها .
وبعد هذه المقدّمة نقول : الحدود اللازمة لكلّ مرتبة ـ العارضة لحقيقة وجود الشيء الذي في تلك المرتبة ـ ، هي التي تحجب ذلك الشيء من الوصول إلى المرتبة العالية وإدراك مالها من الكمال والعظمة ، فإذا خرج الشيء عن هذه الحدود وخلع تلك القيود أمكنه الترقّي إلى درجة ما فوقه فيرى عندئذٍ ذاته متعلّقة به غير مستقلّة عنه ويعرف ماله من البهاء والشرف والكمال والعظمة ، فتلك الحدود هي الحاجبة عن حقيقة الوجود المطلقة عن كلّ قيد فالنفس الوالهة إلى اللذائذ المادية هي المتوغّلة في ظلمات الحدود وغواشي القيود ، وهي أبعد النفوس عن الحقّ تعالى، فكلّما انخلعت من القيود الماديّة وقطعت تعلّقها عن زخارف هذه الدنيا الدنيّة اقتربت من عالم النور والسرور والبهاء والحبور ، حتّى تتجرّد تجرّدا ساميا فتشاهد نفسها جوهرا مجرّدا عن المادة والصورة وعند ذلك خرجت عن الحجب الظلمانية ، وهي حقيقة الذنوب والمعاصي والأخلاق الذميمة ، ورأسها حبّ الدنيا والإخلاد إلى أرض الطبيعة ، وقد روى الفريقان عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «حب الدنيا رأس كلّ خطيئة» لكنّها بعد محتجبة بالحجب النورانية وهي ألطف وأرقّ ، ولذا كان تشخيصها أصعب، ومعرفتها إلى الدقّة والحذاقة أحوج ، فربّ سالك في هذه المسالك لما شاهد بعض المراتب الدانية زعم أنّه وصل إلى أقصى الكمالات وأرفع الدرجات ، وصار ذلك سببا لتوقّفه في تلك المرتبة واحتجابه بها ، ونِعم ما قيل :
رقّ الزجاج ورقّت الخمر
فتشابها وتشابه الأمر
فكأنّها خمر ولا قدح
وكأنّها قدح ولا خمر
فمن شمله عناية الحقّ وساعده التوفيق فخصه اللّه بعبادته ، وهيم قلبه لإرادته ، وفرغ فؤاده لمحبته ، وأزال محبة الأغيار عن قلبه ، وأشرق له نوره ، وكشف له سبحات وجهه ، ورفع عنه حجب كبريائه وسرادقات عزّه وجلاله ، وتجلّى له في سرّه ، ثم وفّقه للاستقامة في أمره والتمكّن في مقامه فارتفع عنه كلّ حجاب ، وتعلّق بعز قدس ربّ الأرباب ، فقد هنأ عيشه وطاب حياته فطوبى له ثُمّ طوبى له . وقد ظهر مما ذكرنا أنّ معنى ارتفاع الحجاب مشاهدة عدم استقلال النفس فلا يوجب ارتفاع الحجب كانعدام العالم رأسا ، بل إنّما يوجب معاينة ما سوى اللّه تعالى متعلّقاً به غير مستقل بنفسه فلا يلزم منه محال ولا ينافي شيئا من أُصول الدين واللّه الهادي والمعين (هامش المصدر) .