119
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

واستوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم ، وقد دخل الإسلام في بيوت عامّتهم فكان مستظهراً بهم علَى العدّة القليلة الذين لم يؤمنوا به وبقوا على‏ شركهم ، ولم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم ويظهروا شركهم فتوقّوا الشرّ بإظهار الإسلام ، فآمنوا به ظاهراً وهم على‏ كفرهم باطناً ، فدسّوا الدسائس ومكروا ما مكروا .
غير تامّ ؛ فما القدرةُ والقوّة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجّل علّةٌ منحصرة للنفاق حتّى‏ يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها ، فكثيراً ما نجد في المجتمعات رجالاً يتّبعون كلّ داع ويتجمّعون إلى‏ كلّ ناعق ، ولا يعبؤون بمخالفة القوَى المخالفة القاهرة الطاحنة ، ويعيشون على‏ خطر مصرّين على‏ ذلك؛ رجاء أن يُوفّقوا يوماً لإجراء مرامهم ويتحكّموا علَى الناس باستقلالهم بإدارة رحَى المجتمع والعلوّ في الأرض . وقد كان النبيّ صلى اللَّه عليه وآله يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتّبعوه كانوا ملوك الأرض .
فمن الجائز عقلاً أن يكون بعض من آمن به يتّبعه في ظاهر دينه طمعاً في البلوغ بذلك إلى‏ اُمنيّته ، وهي التقدّم والرئاسة والاستعلاء . والأثر المترتّب على‏ هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الاُمور وتربّص الدوائر علَى الإسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الدينيّ ، بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لينتظم بذلك الاُمور ويتهيّأ لاستفادته منه واستدراره لنفع شخصه .
نعم ، يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة والمضادّة فيما إذا لاح من الدِّين مثلاً ما يخالف اُمنيّة تقدّمه وتسلّطه ؛ إرجاعاً للأمر إلى‏ سبيل ينتهي إلى‏ غرضه الفاسد .
وأيضاً من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتدّ


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
118

المسلمين ، وبنائهم مسجد الضِّرار ، وإشاعتهم حديث الإفك ، وإثارتهم الفتنة في قصّة السِّقاية وقصّة العَقَبة ، إلى‏ غير ذلك ممّا تشير إليه الآيات ؛ حتّى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الاُمور علَى النبيّ صلى اللَّه عليه وآله إلى‏ حيث هدّدهم اللَّه بمثل قوله : (لَئنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقونَ والَّذِينَ في قُلوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفونَ في المَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فيها إلّا قَليلاً * مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا اُخِذوا وقُتِّلوا تَقْتيلاً)۱ .
وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أنّ عبد اللَّه بن اُبيّ بن سَلول وأصحابه من المنافقين ، وهم الذين كانوا يقلّبون الاُمور علَى النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ويتربّصون به الدوائر ، وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم ، وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم اُحد فانمازوا منهم ورجعوا إلَى المدينة قائلين : لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم ! وهم عبد اللَّه بن اُبيّ وأصحابه .
ومن هنا ذكر بعضهم أنّ حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة واستمرّت إلى‏ قرب وفاة النبيّ صلى اللَّه عليه وآله .
هذا ما ذكره جمع منهم ، لكنّ التدبّر في حوادث زمن النبيّ صلى اللَّه عليه وآله والإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة والاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعّالة يقضي عليه بالنظر :
أمّا أوّلاً : فلا دليل مقنعاً على‏ عدم تسرّب النفاق في‏متّبعي النبيّ صلى اللَّه عليه وآله المؤمنين بمكّة قبل الهجرة . وقول القائل : إنّ النبيّ صلى اللَّه عليه وآله والمسلمين بمكّة قبل الهجرة لم يكونوا من القوّة ونفوذ الأمر وسعة الطَّول بحيث يهابهم الناس ويتّقوهم أو يرجوا منهم خيراً حتّى‏ يُظهروا لهم الإيمان ظاهراً ويتقرّبوا منهم بالإسلام ، وهم مضطهَدون مُفتَّنون مَعذَّبون بأيدي صناديد قريش ومشركي مكّة المعادين لهم المعاندين للحقّ ، بخلاف حال النبيّ صلى اللَّه عليه وآله بالمدينة بعد الهجرة فإنّه صلى اللَّه عليه وآله هاجر إليهاوقد كسب أنصاراً من الأوس والخزرج

1.الأحزاب : ۶۰ و ۶۱ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 149169
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي