صُدي بن عجلان بن الحارث، أبو أمامة الباهلي السهمي، غلبت عليه كنيته سكن «حمص» من الشام، روى عنه : سليمان بن عامر الجنائزي، والقاسم أبو عبد الرحمان، وأبو غالب خرورَّ، وشرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد الالهاني وغيرهم.

روى سليمان بن حبيب المحاربي، قال: دخلت مسجد «حمص» فإذا مكحول وابن أبي زكريا جالسان، فقال مكحول: لو قمنا إلى أبي امامة صاحب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأدّينا من حقّه وسمعنا منه، قال: فقمنا جميعاً حتى أتيناه فسلّمنا عليه فردّالسلام، ثمّ قال: إنّ دخولكم عليَّ رحمة لكم وحجّة عليكم ولم أر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من شيء أشدّ خوفاً على هذه الاَُمّة من الكذب والعصبية، ألا وإيّاكم والكذب والعصبية، ألا وانّه أُمرنا أن نبلغكم ذلك عنه، ألا وقد فعلنا فأبلغوا عنّا ما قد بلغناكم.(۱)

وقال ابن الاَثير في فصل الكنى: أخبر فضال بن جبير، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي، يقول: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يقول: اكفلوا لي ست، أكفل لكم بالجنة، إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتُمن فلا يخن، وإذا وَعد فلا يُخلف، غضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم، واحفظُوا فروجكم. وهو آخر من مات بالشام من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول بعضهم.(۲)

وفي قول آخر: آخرهم موتاً بالشام عبد اللّه بن بشر.

قال ابن سعد: قال أبو امامة: شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون مولِّياً، ولا يسلبون قتيلاً.

ونقل انّه توفي بالشام سنة ۸۶ في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو ابن احدى وستين.(۳)

وما ذكره محرّف قطعاً فقد روى الذهبي عن سليم بن عامر، قال: سمعت أبا امامة يقول: سمعت النبي يقول في حجَّة الوداع. قلت لاَبي امامة: مثْل من أنت يومئذٍ؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة.(۴)

ولو قلنا انّه توفي في سنة ۸۱هـ يكون حينئذٍ هو ابن ۱۰۱ ، ولو قلنا بالقول الآخر يكون ۱۰۶ سنين لا إحدى و ستين. وقد جمعت أحاديثه في المسند الجامع فبلغت ۱۶۱ حديثاً(۵)وإليك شيئاً من محاسن رواياته.

روائع أحاديثه

۱. أخرج أحمد في مسنده، عن زيد بن سلام، عن جدّه، قال: سمعت أبا أُمامة، يقول: سأل رجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما الاِثم؟ فقال: إذا حكّ في نفسك شيء فدعْه، قال: فما الاِيمان؟ قال: إذا ساءتك سيّئتك، وسرّتك حسنتك، فأنت موَمن.(۶)

ويوَيده قوله سبحانه: (إنّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطان تَذَكّروا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون) (الاَعراف/۲۰۱).

۲. أخرج أبو داود في سننه، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، انّه قال: «من أحبّ للّه وأبغض للّه وأعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الاِيمان».(۷)

۳. أخرج ابن خزيمة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي أُمامة الباهلي، عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: عليكم بقيام الليل، فانّه دأبُ الصّالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربّكم،ومكفِّرة للسّيّئات، ومنهاة عن الاِثم.(۸)

ويوَيده قوله سبحانه: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطأً وَأَقْوَمُ قِيلاً)(المزمل/۶).

۴. أخرج مسلم في صحيحه، عن عكرمة بن عمار، حدّثنا شداد، قال: سمعت أبا أمامة، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا ابن آدم، انّك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شرّ لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السُّفلى.(۹)

۵. أخرج ابن ماجة في سننه، عن القاسم، عن أبي امامة، عن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ، أنّه كان يقول: ما استفاد الموَمن بعد تقوى اللّه خير له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله.(۱۰)

۶. أخرج ابن ماجة في سننه، عن عبيد اللّه الافريقي، عن أبي أمامة، قال: نهى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع المغنِّيات وعن شرائهنّ وعن كسبهنَّ وعن أكل أثمانهنّ.(۱۱)

۷. أخرج أحمد في مسنده، عن القاسم، عن أبي أمامة، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلاّ للّه، كان له بكلّ شعرة مرّت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرَّق بين اصبعيه السبّاحة والوسطى.(۱۲)

۸. أخرج أحمد في مسنده عن محمد بن زياد الالهاني، قال: سمعت أبا أمامة، يقول: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بالجار حتى ظننت انّه سيورّثه.(۱۳)

۹. أخرج البخاري في الاَدب المفرد، عن القاسم بن عبد الرحمان، عن أبي أمامة، انّ رسول اللّه، قال: من لم يرحم صغيرنا ويُجلّ كبيرنا، فليس منّا.(۱۴)

۱۰. أخرج ابن ماجة في سننه، عن القاسم، عن أبي أمامة: انّ رجلاً، قال: يا رسول اللّه، ما حقُّ الوالدين على ولدهما؟ قال: هما جنَّتـُك ونارك.(۱۵)

۱۱. أخرج ابن ماجة في سننه، عن القاسم، عن أبي امامة، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :... العالم والمتعلم شريكان في الاَجر ولا خير في سائر الناس.(۱۶)

۱۲. أخرج ابن ماجة في سننه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: عرض لرسول اللّه رجل عند الجمرة الاَُولى، فقال: يا رسول اللّه: أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رأى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول اللّه، قال: كلمة حقّ عند ذي سلطان جائر.(۱۷)

۱۳. أخرج أحمد في مسنده، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، قال: إن فتى شابّاً أتى النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه: ائذن لي بالزّنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه، مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس قال (صلى الله عليه وآله وسلم) :أتحبه لاَُمّك؟ قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداءك، قال: ولا النّاس يحبونه لاَُمهاتهم، قال : أفتحبُّه لابنتك؟ قال: لا واللّه، يا رسول اللّه، جعلني اللّه فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لاَُختك؟ قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لاَخواتهم ، قال: أفتحبّه لعمتّك؟ قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداءك، قال: ولا الناس يحبُّونه لعمّاتهم، قال: أفتحبّه لخالتك؟ قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداءك، قال: ولا الناس يحبّونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.(۱۸)

هذه نماذج من روائع أحاديثه التي يشهد شموخ مضامينها على صحتها ومع ذلك فقد عزيت إليه روايات سقيمة لا تخلو عن إشكال ووهن لكونها مخالفة للكتاب والسنّة أو الموازين الاَُخرى التي أوعزنا إليها في صدر الكتاب وإليك بعض ما وقفنا عليه:

أحاديثه السقيمة

۱. مجيء الاَُمّة يوم القيامة غرّاً محجّلين

أخرج أحمد في مسنده، عن أبي عتبة الكندي، عن أبي أمامة، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما من أُمّتي أحد إلاّوأنا أعرفه يوم القيامة، قالوا: يا رسول اللّه، من رأيت ومن لم تر ؟ قال: من رأيت ومن لم أر غرّاً محجّلين من أثر الطهور.(۱۹)

إنّ قوله: «ما من أُمّتي أحد إلاّوأعرفه» من الصيغ التي تفيد العموم أوّلاً، والحصر ثانياً، وعلى ضوء ذلك يدل الحديث على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف جميع أُمّته، وآية عرفانه كونهم غرّاً محجلين من أثر الطهور مع أنّ تلك العلامة، ليست عامة، بل تختصّ بطائفة من الاَُمّة وهم المتطهرون المصلون، فكيف يعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع الا َُمّة بعلامة في جبين طائفة منهم.

ولا محيص في تصحيح الرواية عن حمل الفقرة الاَُولى من الحديث على المصلّين المتطهّرين، فيكون معنى قوله: «ما من أُمتي»، أي ما من أُمّتي الذين يتطهرون ويصلون أحد إلاّ وأنا أعرفه، وهو خلاف الظاهر ، ولعلّ الحديث لم ينقل صحيحاً.

۲. ملك الموت لا يقبض شهيد البحر

أخرج ابن ماجة في سننه، عن سليم بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة، يقول: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يقول: شهيد البحر مثل شهيدي البرِّ.و المائد في البحر كالمتشحِّط في دمه في البرِّ، وما بين الموجتين كقاطع الدُّنيا في طاعة اللّه، وانّ اللّه عزّ وجلّ وكّل ملك الموت بقبض الاَرواح إلاّ شهيد البحر، فانّه يتولّى قبض أرواحهم. ويغفر لشهيد البرِّ الذنوب كلّها إلاّالدَّيْن، ولشهيد البحر الذُّنوب والدَّين.(۲۰)

يلاحظ عليه: كيف أنّه سبحانه يتولّـى قبض أرواحهم، مع أنّه سبحانه يقول: (قُلْ يَتَوفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(السجدة/۱۱).

يقول سبحانه: (الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ) (النحل/۲۸).

وقال سبحانه: (الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(النحل/۳۲) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تصرِّح بأنّالملائكة هم الموكَّلون بقبض الاَرواح دون فرق بين شهيد البرِّ وشهيد البحر ، ولما كانت الملائكة هم المباشرون لقبض الروح بأمر منه سبحانه صحّ نسبة التوفّي إليهم، كما في الآيات السالفة الذكر، وإلى اللّه سبحانه أيضاً، قال: (اللّهُيَتَوفّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالّتِي لَمْ تَمُت فِي مَنامِها) (الزمر/۴۲).

وقال سبحانه:(هُوَ الَّذِي يَتَوفاكُمْ باللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهار )(الاَنعام/۶۰)، وقال عزّ من قائل: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَن يردّ إِلى أَرذَلِ الْعُمُر ) (النحل/۷۰)، وعلى ضوء ذلك فعالم الاحياء والاماتة عالم الاسباب والمسببات وإليه سبحانه ينتهي تأثير الاَسباب و القوى الغيبيّة فتصح نسبة الفعل إلى المباشر والمسبب.

وربما يتخيل انّ قيامه سبحانه بقبض روح شهيد البحر تخصيص للآيات السابقة فلا مانع من أن يكون قبض الاَرواح بيد الملائكة إلاّ شهيد البحر، لكنّه توهم باطل لاَنّ التخصيص والتقييد والنسخ إنّما هو في الاَحكام التشريعية لا في عالم التكوين وعينية الاَسباب والمسببات.

كما انّ ذيل الحديث «يغفر لشهيد البرِّ الذنوب كلّها إلاّالدّين،ولشهيد البحر الذنوب والدين» قابل للنقاش، لاَنّ الدّين حقّ مالي متعلق بالمديون وليس حقاً للّه تبارك وتعالى ، والدائن و دَيْنه و إن كانا مملوكين للّه تبارك و تعالى لكن جرت مشيئته على أن لا يغفر للمديون إلاّ برضى صاحب الدين، فيُغفر ذنب كلا الشهيدين إذا رضي الدائن وإلاّ فلا يغفر ذنبهما، فما وجه هذا التخصيص؟!

۳. مشاهدات النبي في الجنّة

أخرج أحمد في مسنده، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة بين يدي، فقلت: ما هذا؟ قال: بلال، قال: فمضيت فإذا أكثر أهل الجنّة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين، ولم أر أحداً أقلّ من الاَغنياء والنساء، قيل لي: أمّا الاَغنياء فهم هاهنا بالباب يحاسبون ويمحّصون، وأمّا النساء فألهاهنَّ الاحمران، الذَّهب والحرير، قال: ثمّ خرجنا من أحد أبواب الجنّة الثمانية، فلمّا كنت عند الباب أتيت بكفّة فوضعت فيها، ووضعت أُمّتي في كفّة فرجحت بها، ثمّ أتي بأبي بكر فوضع في كفة، وجيء بجميع أُمّتي في كفة فوضعوا، فرجح أبوبكر، وجيء بعمر فوضع في كفّة، وجيء بجميع أُمّتي فوضعوا، فرجح عمر، وعرضت أُمّتي رجلاً رجلاً فجعلوا يمرّون، فاستبطأت عبد الرحمان بن عوف ثمّ جاء بعد الاياس، فقلت: عبد الرحمان؟!، فقال: بأبي وأُمّي يا رسول اللّه، والذي بعثك بالحقِّ ما خلصت إليك حتى ظننت أنِّي لا أنظر إليك أبداً إلاّ بعد المشيبات، قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي، أُحاسب وأمحَّص.(۲۱)

وفي الحديث تأملات وإشكالات واضحة لا تنطبق على الضوابط التي أشرنا إليها في صدر الكتاب.

أوّلاً: انّ الجنة دار الخلود فمن دخلها كان خالداً فيها، قال سبحانه: (أُولئِكَ أَصحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون) (هود/۲۳). فكيف دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرج منها وهل هذا إلاّتخصيص للسنة الاِلهية؟

ثانياً: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع خشفة بين يديه، والخشفة هي الصوت الخفي، فقال: ما هذا؟ قال: بلال. وهل كان بلال دخل الجنّة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنّه كان في المدينةحيّاً يرزق؟

ثالثاً: ثمّ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من أحد أبواب الجنّة الثمانية، فإذا وضعت أُمّته في كفة، ووضع أبو بكر في كفة أُخرى، رُجّحت كفة أبي بكر، ومثله عمر، والمراد من التمثيل انّحسنات الاَُمّة كانت أقلّ من حسنات كلّ واحد من الشيخين، وفي الاَُمّة من هو أسبق منهما إسلاماً وجهاداً وأكثر علماً وتقوى.

ثمّ لما شاهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استبطاء عبد الرحمان بن عوف، فسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب التأخير، فقال: ما استبطأت إلاّمن كثرة مالي، أحاسب وأمحّص.

إنّ ذيل الحديث لا يوافق مع ما نعلم من حياة وسيرة عبد الرحمن بن عوف، فقد جاء في ذيل الحديث انّه حُوسب ومُحِصَّ ودخل الجنة وشافه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال له: «والذي بعثك بالحقّ ما خلصت إليك حتى ظننت انّي لا أنظر إليك أبداً إلاّ بعد المشيبات، قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أُحاسب وأمحص» وإليك صورة إجمالية عما تركه عبد الرحمن، فهل مثله يحاسب ويمحص وفي المدينة وما والاها بطون غرثى، وأكباد حرّى لا عهد لهم بالشّبع؟!

قال ابن سعد: ترك عبد الرحمان ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجُرُف على عشرين ناضحاً وكان يدخل قوت أهله من ذلك سنة، وكان فيما ترك ذهب، قُطِعَ بالفوَوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفاً.

وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمان، قال: أصاب تَماضرَ بنت الاَصبغ رُبعُ الثمن، فأخرجت بمائة ألف، وهي إحدى الاَربع.(۲۲)

وقال المسعودي: ابتنى داره ووسعها، وكان على مربضه ۱۰۰ فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله ۸۴ ألفاً.(۲۳)

۴. لا وصية لوارث

أخرج الترمذي في سننه، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في خطبته عام حجّة الوداع:

إنّ اللّه قد أعطى لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على اللّه، ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه التابعة إلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلاّ بإذن زوجها، قيل: يا رسول اللّه، ولا الطّعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا، ثمّ قال: العارية موَدّاة، والمنحة مردودة، والدَّين مقضيّ والزَّعيم غارم.(۲۴)

وهذا الجزء من الحديث(لا وصية لوارث) يخالف الكتاب إذ يكفي في جواز الوصية للوارث قوله سبحانه:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَأَحَدَكُمُ المَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَينِ وَالاََقْرَبينَ بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلى المُتَّقِينَ)(البقرة/۱۸۰)، والآية تأمر بالايصاء بالمعروف ، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوصِ بالمعروف، والآية صريحة في الوصية للوالدين ولا وارث أقرب للاِنسان من والديه، وقد خصهما بالذكر لاَولويّتهما بالوصية، ثمّ عمّم الموضوع، وقال: والاَقربين ليعم كلّقريب وارثاً كان أم لا.

ولا يمكن القول بنسخ القرآن العظيم بخبر الواحد مع إمكان الجمع بينهما، وهو حمل الخبر على ما إذا زاد عن الثلث، حتى أنّالدار قطني أخرجه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القيد، وقال: خطبنا رسول اللّه بمنى، وقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد قسم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.(۲۵)

وقد بسطنا الكلام حوله في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.(۲۶)

۵. النهي عن السياحة

أخرج ابن داود في سننه، عن القاسم، عن أبي أمامة انّرجلاً، قال: يا رسول اللّه، ائذن لي في السياحة، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ سياحة أُمّتي الجهاد في سبيل اللّه تعالى».(۲۷)

انّ حصر السياحة في الجهاد لا يساعده الكتاب ولا سيرة المسلمين، أمّا الكتاب فقد ذكر من أوصاف الموَمنين،وقال: (التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الحامِدُونَ السائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِوَالحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبشِّرِ المُوَْمِنينَ) (التوبة/۱۱۲) وقد فُسِّر السائحون بطلبة العلم الذين يسيحون في الاَرض ويطلبونه في مظانه.(۲۸)

قال سبحانه: (فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين)(التوبة/۱۲۲) ولو غُضَّ النظر عن هذه الآية، فقد دلت الآيات الاَُخرى على استحباب السير في الاَرض، قال سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَعاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَمِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوّةً وَآثاراً فِي الاََرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر/۸۲).

وأمّا سيرة المسلمين فالسياحة في الاَرض سنة سائرة بينهم، ولو جعلنا السفر من أقسام السياحة، فقد ندب إليها في الشرع وذكر لها فوائد جمة.

ولا محيص في تصحيح الحديث من حمله على الترغيب إلى الجهاد والتأكيد عليه، فكأنّه لا سياحة في الاِسلام إلاّ السير إلى الجهاد.

۱. أُسد الغابة: ۳/۱۶.

۲. أُسد الغابة: ۵/۱۳۸.

۳. طبقات ابن سعد: ۷/۴۱۱ـ ۴۱۲.

۴. سير أعلام النبلاء: ۳/۳۶۰.

۵. المسند الجامع: ۷/۴۸۱.

۶. مسند أحمد: ۵/۲۵۱.

۷. سنن أبي داود: ۴/۲۲۰ برقم ۴۶۸۱.

۸. المسند الجامع: ۷/۴۰۷ برقم ۵۲۴۹.

۹. صحيح مسلم: ۳/۹۴، باب النهي عن المسألة من كتاب الزكاة.

۱۰. سنن ابن ماجة: ۱/۵۹۶ برقم ۱۸۵۷.

۱۱. سنن ابن ماجة: ۲/۷۳۳ برقم ۲۱۶۸.

۱۲. مسند أحمد: ۵/۲۵۰.

۱۳. مسند أحمد: ۵/۲۶۷.

۱۴. الاَدب المفرد: ۱۳۰ برقم ۳۵۸.

۱۵. سنن ابن ماجة: ۲/۱۲۰۸ برقم ۳۶۶۲.

۱۶. سنن ابن ماجة: ۱/۸۳ برقم ۲۲۸.

۱۷. سنن ابن ماجة: ۲/۱۳۳۰ برقم ۴۰۱۲.

۱۸. مسند أحمد:۵/۲۵۶.

۱۹. مسند أحمد: ۵/۲۶۱.

۲۰. سنن ابن ماجة: ۲/۹۲۸ برقم ۲۷۷۸.

۲۱. مسند أحمد: ۵/۲۵۹.وأخرج الترمذي نظيره عن بريدة الاَسلمي مع اختلاف في المضمون لاحظ: السنن:۵/۶۲۰ برقم ۳۶۸۹، وقد مضى الكلام في الحديث عند ترجمته.

۲۲. طبقات ابن سعد: ۳/۱۳۶ـ ۱۳۷، فصل ذكر وصية عبد الرحمان بن عوف.

۲۳. مروج الذهب: ۲/۳۳۳، طبع دار الاندلس.

۲۴. سنن الترمذي: ۴/۴۳۳ برقم ۲۱۲۰.

۲۵. الدار قطني، السنن:۴/۱۵۲، الوصايا، الحديث ۱۲ـ۱۳.

۲۶. الاعتصام بالكتاب والسنة، ص ۲۳۷ـ ۲۶۰.

۲۷. سنن أبي داود:۳/۵ برقم ۲۴۸۶.

۲۸. الكشاف: ۲/۱۷۴؛ الدر المنثور:۴/۲۹۸.