عويمر بن مالك بن زيد بن قيس الاَنصاري الخزرجي، أُمّه محبّة بنت واقد ابن عمرو، تأخر إسلامه قليلاً وكان آخر أهل داره إسلاماً وحسن إسلامه، وكان فقيهاً عاقلاً حكيماً، آخى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه و بين سلمان الفارسي، شهد ما بعد أُحد من المشاهد وأوّل مشاهده الخندق.

ولي أبو الدرداء قضاء دمشق، وتوفي قبل أن يقتل عثمان بسنتين(۱)أي سنة ۳۳.

روى عنه أنس بن مالك، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، وعبد اللّه بن عمر، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وجبير بن نفير، وابن المسيب وغيرهم.(۲)

أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي الدرداء انّه كان إذا حدّث الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يقول: اللّهمّ إن لم يكن هكذا فشبِهْهُ فشَكْله.(۳)

روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة أحاديث، وهو معدود ممن تلا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يبلغنا أبداً أنّه قرأ على غيره، وتصدر الاِقراء بدمشق في خلافة عثمان وقبل ذلك.

ويظهر ممّا ذكره أصحاب المعاجم في حقّه أنّه كان متقشفاً، غير متعمق في الدين. ويدلّ عليه أمران:

الاَوّل: نقل ابن سعد عن عمر بن مرّة: قال: سمعت شيخنا يحدّث عن أبي الدرداء، انّه قال: أُحبّ الفقر تواضعاً لربّـي، وأُحبّ الموت اشتياقاً إلى ربّـي، وأُحبّ المرض تكفيراً لخطيئتي.(۴)

وقد زعم ذلك الصحابي الجليل انّ ما كان يحبه ويرجّحه، أمر تلقاه الشرع بالقبول، ولكنّ أئمّة أهل البيت والعرفاء الشامخين يرضون بما قضى لهم اللّه سبحانه من الفقر والغنى، أو الموت والحياة، والمرض والصحّة، ويطلبون رضى اللّه في كلّحال، ويترنّمون بقول العارف الحكيم السبزواري:

و بهجـة بما قضـى اللّه رضــا * وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

قيل: للحسن بن علي (عليهما السلام) : إنّأبا ذر، يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحبُّ إليَّ من الصحّة. فقال: رحم اللّه أبا ذر. أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار اللّه له، لم يتمنَّ انّه في غير الحالة التي اختارها اللّه له.(۵)

الثاني: دخل سلمان بيت أبي الدرداء فإذا أُم الدرداء متبذِّلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنّأخاك لا حاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبوالدرداء، فرحّب به وقرب إليه طعاماً، فقال له سلمان: كُل، فقال: إنّي صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرنّ فأكل معه ثمّ بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم فمنعه سلمان، فقال: إنّ لجسدك عليك حقّاً، ولربّك عليك حقّاً، ولاَهلك عليك حقّاً. صم وأفطر، وصلّ وائتِ أهلك وأعط كلّ ذي حقٍّ حقّه.

فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت، فقاما، فتوضآ، ثمّ ركعا، ثمّ خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول اللّه بالذي أمره سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء، انّلجسدك عليك حقّاً، مثل ما قال لك سلمان.

وكانت له مواقف مشرقة، وهذا هو الاِمام أحمد يروي انّ أبا الدرداء لما سمع تسيير أبي ذر إلى الربذة استرجع قريباً من عشر مرات، ثمّ قال: ارتقبه واصطبر كما قيل لاَصحاب الناقة، اللّهمّ إن كذَّبوا أباذر، فانّي لا أُكذِّبه، اللّهمّ وإن اتهموه فانّي لا أتهمه، اللّهمّ وإن استغشوه، فإنّي لا استغشه.

فإنّ رسول اللّه كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً،ويسرّ إليه حين لا يسرّ إلى أحد.

أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو انّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.(۶)

وعلى أية حال فيروى له مائة وتسعة وسبعون حديثاً واتفقا له على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية.(۷)

وقدجُمعت أحاديثه في المسند الجامع فبلغت ۱۱۳ رواية.

فلنذكر شيئاً من روائع أحاديثه، ثمّ نعرج إلى الاَحاديث السقيمة التي عزيت إليه.

روائع أحاديثه

۱. أخرج أبو داود في سننه، عن خليد العصري، عن أُمّ الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : خمس من جاء بهنَّ مع إيمان دخل الجنّة، من حافظ على الصّلوات الخمس على وضوئهنَّ وركوعهنّ وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وصام رمضان، وحجّ البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيِّبة بها نفسه، وأدّى الاَمانة.

قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الاَمانة؟ قال: الغسل من الجنابة.(۸)

ولا غبار على مضمون الرواية، وقد ورد في غير واحد من الروايات وتدعمها المفاهيم العامة الواردة في الاِسلام، بيد انّتفسير الاَمانة بالغسل من الجنابة تفسير بالرأي، إلاّ أن يكون الرسول فسرها بهذا النحو، وإلاّ فأداء الاَمانة بمفهومها الكلي العام من علائم الاِيمان.

قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تُوََدُّوا الاََماناتِ إِلى أَهْلِها) (النساء/۵۸).

وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ لاََماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (الموَمنون/۸).

وقال سبحانه: (فَإِنْ أَمِنَ بَعضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُوَدِّ الَّذي اوَْتُمِنَ أَمانَتَه)(البقرة/۲۸۳).

۲. أخرج الاِمام أحمد، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ، قال: لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الاِيمان حتى يعلم انّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.(۹)

إنّ ما يصيب الاِنسان أو يخطئه على قسمين، تارة يعد من أفعاله التي يناط بها الاِيمان والكفر والثواب والعقاب، وهذا القسم من الاَفعال غير خارج عن إختياره فلو أصابه أو اخطأه فإنّما أصاب أو أخطأ باختياره فلا يصحّ أن يقال انّما أصابه لم يمكن ليخطأه أو ما أخطأه لم يكن ليصيبه، إذ معنى ذلك انّ الاِيمان والكفر والطاعة والعصيان من الاَُمور التي لم يكن للعبد فيها دور، فالموَمن لم يكن له بدّ من الاِيمان، والكافر لم يكن له بد من الكفر، والمطيع لم يكن له إلاّ الطاعة، والعاصي لم يكن له إلاّ العصيان فلم يكن في وسع المطيع، العصيانُ كما انّه لم يكن في وسع العاصي، الطاعةُ.

فالقول باللابدية في هذا النوع من الاَفعال عين الجبر وهو ينافي القرآن الكريم المنادي للاختيار والذي يخاطب المجتمع الاِنساني بقوله: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُوَْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (الكهف/۲۹).

نعم، ينطبق ما ورد في الحديث على الاَُمور الخارجة عن مجال الاختيار، فالحوادث والنوازل أُمور يواجهها الاِنسان بلا اختيار وقد قدِّر، ولم يكن محيص من التقدير، قال سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الاََرْض وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّفِي كتابٍ مِنْ قَبْلِأَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسِير ) (الحديد/۲۲).

وقد ذكرنا غير مرّة انّ تعظيم القدر وتفخيم شأنه وجعل زمام حياة الاِنسان بيده من الاَفكار المستوردة.

۳. أخرج النسائي، عن عطاء بن يسار: انّ معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى عن مثل هذا إلاّمثلاً بمثل.(۱۰)

وما رواه، من الاَحكام الضرورية في الفقه الاِسلامي، وقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، انّه قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّمثلاً بمثل.(۱۱)

والعجب انّ معاوية الذي ادّعى الخلافة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جهل هذا الحكم الاِسلامي أو تجاهله فباع السقاية بأكثر من وزنها.

۴. أخرج أحمد في مسنده عن حمزة بن حبيب، عن أبي الدرداء،عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، انّه قال: «إنّ اللّه تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم».(۱۲)

۵. أخرج أبو داود، عن أُمّالدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ اللّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكلّ داء دواء، فتَداوَوْا ولا تَداوَوْا بحرام.(۱۳)

۶. أخرج الترمذي، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فانّ فساد ذات البين هي الحالقة.(۱۴)

وما رواه أبو الدرداء قد رواه الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السلام) ، وقد ذكر في وصية لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) :« وصلاح ذات بينكم، فإنّي قد سمعت جدكما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصَّلاةو الصِّيام».(۱۵)

۷. أخرج أبو داود في سننه، عن عبد اللّه بن أبي زكريا، عن أبي الدرداء، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فاحسنوا أسماءكم.(۱۶)

۸. أخرج أبو داود في سننه، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: «حبك الشيء يُعمي ويُصم».(۱۷)

ويوَيده قوله سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاََخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ( الكهف/۱۰۳ـ ۱۰۴).

وقال سبحانه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (فاطر/۸).

۹. أخرج الترمذي في سننه، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ اللّه عن وجهه النّار يوم القيامة.(۱۸)

۱۰. أخرج أحمد في مسنده، عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :من سمع من رجل حديثاً لا يشتهي أن يذكر عنه، فهو أمانة وإن لم يستكتمه.(۱۹)

ما نقلناه شيء من روائع أحاديثه استعرضناها كنماذج لما لم نأت به، وفي الوقت نفسه عزيت إليه روايات لا تدعمها الضوابط السالفة الذكر، ونشير إلى بعضها:

أحاديثه السقيمة

۱. عدم منازعة ولاة الاَمر

أخرج البخاري في الاَدب المفرد، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتسع :لا تشرك باللّه شيئاً وإن قُطِّعت أو حُرِّقت، ولا تتركنَّ الصلاة المكتوبة متعمداً، ومن تركها متعمداً برئت منه الذمة، ولا تشربنّ الخمر فانّها مفتاح كلّ شر، وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما، ولا تُنازعنَّ ولاة الاَمر ....(۲۰)

أقول: لا شكّ انّ التوحيد هو الاَصل الموحد في الشرائع السماوية ولكن يجوز الاظهار بالشرك عند التقية حفاظاً على النفس والنفيس عند الاضطرار، قال سبحانه: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِِيمان) (النحل/۱۰۶) وقال سبحانه: (إِلاّأَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (آل عمران/۲۸).

وليست هذه الفقرات من الوصية شيئاً يختص بأبي الدرداء، بل هو المخاطب ولكن المضمون يرجع إلى قاطبة المسلمين، ومن الواضح جواز التظاهر بالشرك لغايات نبيلة، وقضية عمار في ذلك معروفة، فما معنى قوله: «لا تشرك باللّه شيئاً وإن قُطّعت أوحُرّقت».

وتصور انّ المراد هو الاِشراك القلبي (بأنّه لا يجوز وإن قطع أو حرق)، فهو غير تام، لاَنّ الاَمر القلبي لا يخضع للاِكراه حتى يتعلق به النهي، بل يتعلق الاِكراه ثم النهي، بالاَمر الظاهري وقد عرفت انّ التظاهر بالشرك جائز لغاية مهمة.

وفي الرواية فقرة أُخرى وهي قوله: « لا تنازعنّ ولاة الاَمر» فما هو المراد؟ فهل المراد هم ولاة الاَمر العدول، فالنزاع معهم خروج عليهم وهو أمر محرم.

أو المراد ولاة الاَمر الجائرون، فالخروج عليهم جائز أو واجب حسب درجات ما يترتب على ولايتهم من المفاسد، فمنازعتهم من باب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على المسلم إذا كان جامعاً للشرائط، وقد حكى السبط الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) عن جدّه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرُم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان، فلم يعيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله.(۲۱)

وحصيلة الكلام انّ ما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أبا الدرداء، وصية لعامة المسلمين وتوافق روح الاِسلام و أُصوله إلاّالفقرتين الاَخيرتين ، الا َُولى: «وإن قطعت وحرقت» ، والثانية: «لا تنازعنّ ولاة الاَمر».

۲. إبليس يواجه النبي بشهاب من نار

أخرج مسلم عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، قال: قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعناه، يقول: أعوذ باللّه منك، ثمّ قال: ألعنك بلعنة اللّه ثلاثاً، وبسط يده كأنّه يتناول شيئاً، فلمّا فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول اللّه قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك؟ قال : إنّ عدوّ اللّه إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ باللّه منك ثلاث مرّات، ثم قلت: ألعنك بلعنة اللّه التامة، فلم يستأخر ثلاث مرّات، ثمّ أردت أخذه، واللّه لولا دعوة أخينا سليمان لاَصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة.(۲۲)

وثمة تساوَلات حول الرواية؟

الاَُولى: انّ ما رواه أبو الدرداء هو نفس ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الروايتين اختلاف شاسع، وسنذكر الرواية عند دراسة ما عزيت إليه من الروايات تحت عنوان سلطان إبليس على النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» .

روى أبو سعيد الخدري انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمّا فرغ من صلاته، قال: لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعي هاتين: الابهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لاَصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل.(۲۳)

وأنت ترى انّ الرواة تصرّفوا في الرواية فقد نقلوها بصورتين مختلفين جداً. بل بصور مختلفة، فقد رواها مسلم عن أبي هريرة بوجه يخالف كلتا الصورتين كما سيوافيك في ترجمته، كلّ ذلك يسلب الاعتماد على تلك المروّيات، وتصوّر تعدّد الواقعة بعيد جداً.

الثانية: انّ غاية ما يثبته القرآن لاِبليس هو سلطان الوسوسة وهو في حقّ غير عباده الصالحين، قال سبحانه: (إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل/۹۹).

ثمّ ليس له سلطان على بني آدم بالضرب والاِحراق فضلاً عن أن يكون له سلطان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجعل شهاب من نار على وجهه.

الثالثة: انّ قوله : «أردت أخذه» يعرب عن كون الشيطان موجوداً عنصرياً قابلاً للاَخذ، ومثله لا يمكن أن يوسوس في صدور العالمين في زمان واحد.

الرابعة: انّه سبحانه يصرح بأنّ إبليس يرى الاِنسان وهو لا يراه، قال: (إنّهُ َيراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَروْنَهُمْ) (الاَعراف/۲۷) ، فما معنى قوله: «ولولا دعوة أخينا سليمان لاَصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة» فانّ اللعب فرع الروَية.

الخامسة: يظهر من ذيل الرواية انّ سليمان أكثر قدرة من نبينا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يكن لاِبليس أي سلطان على سليمان «عليه السلام» بل كان مسخراً له، بخلاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان بصدد وضع شهاب من نار في وجهه.

۳. الفراغ من التقدير

أخرج أحمد عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، قالوا: يا رسول اللّه : أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه، أم أمر نستأنفه قال، قال: بل أمر قد فرغ منه، قالوا: فكيف بالعمل يا رسول اللّه؟ قال: كل امرىَ مهيّأ لما خلق له.(۲۴)

وأخرج أيضاً عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» :

إنّ اللّه عزّ وجلّ فرغ إلى كلِّ عبد، من خلقه، من خمس: من أجله، وعمله، ومضجعه، وأثره، ورزقه.(۲۵)

وفي رواية إسماعيل عن أُمّ الدرداء، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: فرغ اللّه إلى كلِّ عبد من خمس: من أجله، ورزقه، وأثره، وشقيٍّ أم سعيد.(۲۶)

أقول: الفراغ من الاَمر يهدف إلى أنّ الاِنسان مسيَّر في حياته وليس بمخيّـر، وكلّ إنسان خلق لغاية خاصة أمّا النار أو الجنّة فهو مهيّأ لما خلق له، فلما كانت تلك الفكرة على طرف النقيض من بعثة الاَنبياء وإصلاح المصلحين عاد الحاضرون في مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقالوا : إذا كان هناك فراغ من العمل فما معنى العمل، فأُجيبوا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كلّامرىَ مهيأ لما خلق له، ومن المعلوم انّالجواب لا يقلع الاِشكال، فإنّ تهيئة كلّإنسان لما خلق عبارة أُخرى عن الجبر لا الاختيار، فالكافر زُوِّد بأسباب توصله إلى النار فقط، والموَمن جهّز بأسباب أُخرى توصله إلى الجنة.

إنّ القول بالفراغ يضاد قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب) (الرعد/۳۹) كما ينافي قوله سبحانه: (وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالاََرْض وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الاَعراف/۹۶).

إنّ القول بالفراغ يبعث الخيبة والحرمان لدى عامة الناس لاَنّه إذا كان الاَمر قد فرغ منه، فنحن على كلّحال إمّا إلى الجنة أو إلى النار، فما فائدة القيام بالطاعة والانتهاء عن المعصية .

وقد كافح أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تلك الفكرة بطرح البداء وانّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء و يثبت وليس للاِنسان مصير واحد قطعي لا يتبدل ولا يتغير وإن كان علمه سبحانه لا يتبدل ولا يتغير.

وقد ألمح إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير واحد من الروايات التي رواها جلال الدين السيوطي في تفسير قوله: (يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) و من أراد التفصيل فليرجع إليه(۲۷)

وبذلك يعلم انّ ما أخرجه أحمد عن أبي الدرداء أيضاً لا يقل في الوهن عمّا نقلناه عنه.

أخرج أحمد عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء عن النبيقال:خلق اللّه آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرِّية بيضاء كأنّهم الدّرّ، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرِّية سوداء، كأنّهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنّة ولا أُبالي، وقال: للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أُبالي.(۲۸)

۴. لا يدخل الجنّة موَمن بسحر

أخرج أحمد عن أبي إدريس عائذ اللّه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يدخل الجنة عاق، ولا موَمن بسحْر، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر.(۲۹)

والحديث قابل للنقاش من وجهين:

الاَوّل: ما هو المقصود من الاِيمان بالسحر في قوله: ولا موَمن بسحر؟ فإن أُريد انّ السحر والساحر لا يضران بالمسحور إلاّبإذن منه سبحانه، فهذا ممّا يجب الاِيمان به، فانّ تأثير كلّموَثر ومنه السحر بإذنه سبحانه، قال: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرءِوَزَوجِهِ وَما هُمْ بِضارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّبِإِذْنِ اللّه)(البقرة/۱۰۲).

وإن أُريد انّالسحر والساحر إنّما يقومان بالاضرار على وجه الاستقلال فلا ريب انّ الاِيمان به شرك في الخالقية و التدبير ولكن لا يختص بتأثير السحر . بل الاِيمان بإستقلال كلّ موَثر في التأثير شرك.

الثاني: احتلّت مسألة القدر في الاَحاديث المروية في الصحاح والسنن منزلة رفيعة وصارت ملاكاً للاِيمان والكفر، والمقدار اللازم هو الاِيمان بالقضاء والقدر بنحو لا يجعل الاِنسان مسيّراً في حياته، ولا يسلب الاختيار عنه، ولا يجعله كالريشة في مهبِّ الريح.

وأظن انّ اعطاء تلك المنزلة للقدر وغضّ النظر عن الاَصل الآخر وهو اختيار الاِنسان في فعله وتركه كان لاَجل تبرير عمل السلطات الجائرة من الاَمويين والعباسيين.

۱. أُسد الغابة:۵/۱۸۵، وفي سير اعلام النبلاء انّه توفي قبل عثمان بثلاث سنين، ونقل ابن سعد انّه توفي في الشام سنة ۳۱هـ.

۲. أُسد الغابة: ۴/۱۶۰.

۳. الطبقات الكبرى: ۷/۳۹۲.

۴. طبقات ابن سعد: ۷/۳۹۲.

۵. تهذيب ابن عساكر:۴/۲۲۰؛ البداية والنهاية:۸/۳۹.

۶. مسند أحمد: ۵/۱۹۷.

۷. سير اعلام النبلاء: ۲/۳۴۲برقم۶۸.

۸. سنن أبي داود: ۱/۱۱۶ برقم ۴۲۹.

۹. مسند أحمد: ۶/۴۴۱.

۱۰. سنن النسائي: ۷/۲۷۹، باب بيع الذهب بالذهب.

۱۱. أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

۱۲. مسند أحمد: ۶/۴۴۱.

۱۳. سنن أبي داود: ۴/۷ برقم ۳۸۷۴.

۱۴. سنن الترمذي: ۴ /۶۶۳ برقم ۲۵۰۹، ورواه أبو داود في سننه: ۴/۲۸۰ برقم ۴۹۱۹ مع تفاوت يسير .

۱۵. نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم ۴۷.

۱۶. سنن أبي داود: ۴/۲۸۷ برقم ۴۹۴۸.

۱۷. سنن أبي داود: ۴/۳۳۴ برقم ۵۱۳۰.

۱۸. سنن الترمذي: ۴/۳۲۷ برقم ۱۹۳۱.

۱۹. مسند أحمد: ۶/۴۴۵.

۲۰. البخاري: الاَدب المفرد، ص ۲۳ برقم ۱۸؛ ورواه ابن ماجة في سننه :۲/۱۱۹ برقم ۳۳۷۱، وقد اكتفى بالنهي عن شرب الخمر ،كما رواه في موضع آخر: ۲/۱۳۳۹ برقم ۴۰۳۴، وليس فيه قوله: «ولا تنازعنّ ولاة الاَمر» «ولا اطاعة الوالدين».

۲۱. تاريخ الطبري: ۴/۳۰۴ حوادث سنة ۶۱.

۲۲. صحيح مسلم:۲/۷۳، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

۲۳. مسند أحمد: ۳/۸۲.

۲۴. مسند أحمد: ۶/۴۴۱.

۲۵. مسند أحمد: ۵/۱۹۷.

۲۶. مسند أحمد: ۵/۱۹۷.

۲۷. السيوطي: الدر المنثور: ۵/تفسير سورة الرعد: الآية ۳۹.

۲۸. مسند أحمد: ۶/۴۴۱ وقد سقطت جملة «لا موَمن بسحر» من المطبوع من مسند أحمد في ستة أجزاء ونقله موَلف المسند الجامع : ۲/ ۱۳۳، وجامع المسانيد والسنن: ۵/۱۰۸.

۲۹. مسند أحمد: ۶/۴۴۱ وقد سقطت جملة «لا موَمن بسحر» من المطبوع من مسند أحمد في ستة أجزاء ونقله موَلف المسند الجامع : ۲/ ۱۳۳، وجامع المسانيد والسنن: ۵/۱۰۸.