381
ميزان الحکمه المجلد السابع

بنحوٍ ، وهذا شأنُ الإنسان لا يتخطّاه البتّة . ولو عثرنا في موارد على‏ ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمّل والإمعان تنحلّ الشبهة ، ويظهر البحث عن العلّة ، والركون والطمأنينة إليها فطريّ ، والفطرة لا تختلف ولا يتخلّف فعلها ، وهذا يؤدّي الإنسان إلى‏ ما فوق طاقته من العمل الفكريّ والفعل المتفرّع عليه لسعة الاحتياج الطبيعيّ ، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى‏ رفعه معتمداً على‏ نفسه ومتّكئاً إلى‏ قوّة طبيعته الشخصيّة ، فاحتالت الفطرة إلى‏ بَعْثه نحو الاجتماع وهو المدنيّة والحضارة ، ووزّعت أبواب الحاجة الحيويّة بين أفراد الاجتماع ، ووكّل بكلّ باب من أبوابها طائفةً كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه . ولا تزال الحوائج الإنسانيّة تزداد كمّيّة واتّساعاً ، وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم ، ويتربّى‏ عند ذلك الأخصّائيّون من العلماء والصُّنّاع ، فكثيرٌ من العلوم والصناعات كانت علماً أو صَنعةً واحدةً يقوم بأمرها الواحد من الناس ، واليوم نرى كلّ بابٍ من أبوابه علماً أو علوماً أو صنعةً أو صنائع، كالطبّ المعدود قديماً فنّاً واحداً من فروع الطبيعيّات وهو اليوم فنونٌ لا يقوم الواحد من العلماء الأخصّائيّين بأزيد من أمر فنّ واحدٍ منها .
وهذا يدعو الإنسان بالإلهام الفطريّ أن يستقلّ بما يخصّه من الشغل الإنسانيّ في البحث عن علّته ويتّبع في غيره من يعتمد على‏ خبرته ومهارته .
فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع علَى الرجوع إلى‏ أهل الخبرة ، وحقيقة هذا الاتّباع والتقليد المصطلح الركون إلَى الدليل الإجماليّ فيما ليس في وسع الإنسان أن ينال دليل تفاصيله ، كما أنّه مفطور علَى الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيليّ فيما يسعه أن ينال تفصيل علّته ودليله . ومِلاك الأمر كلّه


ميزان الحکمه المجلد السابع
380

ويذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وفي ذلك بلاءٌ من ربّهم عظيم .
وبالجملة ، فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم والربّانيّون من علمائهم ممّا فيه صلاح معاشهم ومعادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى‏ وغيره) وسريعة اللحوق إلى‏ ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم .
وقد ابتُلِيَت الحقيقة والحقُّ اليوم بمثل هذه البليّة بالمدنيّة المادّيّة التي أتحفها إليها عالم الغرب ، فهي مبنيّة القاعدة علَى الحسّ والمادّة ، فلا يقبل دليلٌ فيما بَعُد عن الحسّ ولا يسأل عن دليلٍ فيما تضمّن لذّةً مادّيّةً حسّيّةً ، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانيّة في أحكامها ، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا ، فصار يهدّد الإنسانيّة بالانهدام ، وجامعة البشر بأشدّ الفساد ، وليعلمنّ نبأه بعد حين .
واستيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك ، فما كلّ دليل بمطلوب ، وما كلّ تقليد بمذمومٍ . بيان ذلك : أنّ النوع الإنسانيّ بما أنّه إنسان إنّما يسير إلى‏ كماله الحيويّ بأفعاله الإراديّة المتوقّفة علَى الفكر ، والإرادة منه مستحيلة التحقّق إلّا عن فكر ، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتنى عليه الكمال الوجوديّ الضروريّ ، فلابدّ للإنسان من تصديقات عمليّة أو نظريّة يرتبط بها كماله الوجوديّ ارتباطاً بلا واسطةٍ أو بواسطة ، وهي القضايا التي نعلّل بها أفعالنا الفرديّة أو الاجتماعيّة أو نحضرها في أذهاننا ، ثمّ نحصّلها في الخارج بأفعالنا ، هذا .
ثمّ إنّ في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث أو يهاجم إلى‏ ذهنه من المعلومات ، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلّا إذا حضر في ذهنه عِلّته الموجبة ، ولا يقبل تصديقاً نظريّاً إلّا إذا اتّكأ علَى التصديق بعلّته

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد السابع
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 194673
الصفحه من 640
طباعه  ارسل الي