417
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الكلام لعظَمَتِه ، يحبّ المساكين ، ويقرِّب أهلَ الدّين ، وأشهَد لقد رأيتُه في بعض مَواقِفه ... وتَمامُ الكلامِ مذكورٌ في الكتاب .
وذَكَر أبو عمرَ بنُ عبد البرّ في كتاب ( الاستيعاب ) ۱ هذا الخبرَ ، فقال : حدّثنا عبدُ اللّه ابنُ محمّد ابنِ يوسفَ ، قال : حدّثنا يحيى بنُ مالك بنِ عائد ، قال : حدّثنا أبو الحسن محمّد بنُ محمّدِ بنِ مُقْلة البَغْداديّ بمصرَ . وحدّثنا أبو بكر محمّد بن الحسن بنِ دُرَيد ، قال : حدّثنا العُكْليّ ، عن الحِرْمازِيّ ، عن رجل من هَمْدان ، قال : قال معاويةُ لضِرارالضبّابيّ : يا ضرار صِفْ لي عَلِيّا ، قال : اعفِني يا أميرَ المؤمنين ؛ قال : لتَصِفَنّه ؛ قال : أمّا إذ لابدّ من وَصْفِه ، فكان واللّهِ بعيدَ المَدَى ، شديدَ القُوَى ، يقول فَصْلاً ، ويَحكُم عَدْلاً ، يتفجّر العِلم من جَوانبِه ، وتَنطِق الحكمة من نَواحيه ، يَستوحِش من الدنيا وزَهرتِها ، ويَأنَس باللّيل ووَحْشَتِه ، [ وكان ] غزيرَ العَبْرة ، طويلَ الفكْرة ، يُعجِبه من اللّباس ما قَصُر ، ومن الطعام ما خَشُن . كان فينا كأحدِنا ، يجيبُنا إذا سألناه ، ويُنبئنا إذا استَفْتَيْناه ؛ ونحن واللّهِ مع تقريبه إيّانا ، وقربِه منّا ، لا نكاد نكلّمه هيبةً له . يعظِّم أهلَ الدّين ، ويقرِّب المساكينَ . لا يَطمَع القويُّ في باطله ، ولا ييئس الضعيفُ من عَدلِه ؛ وأشهَد لقد رأيتُه في بعض مَواقِفه وقد أرخَى الليلُ سُدوله ، وغارَت نجومُه ، قابضا على لِحيته ، يَتَمَلْمَل تَملْمُل السَّلِيم ۲ ، ويَبكِي بكاءَ الحزين ، ويقول : يا دُنْيا غُرِّي غَيْري ، أبي تعرّضتِ ! أم إليّ تشوّقْتِ ! هيهاتَ هيهاتَ ! قد باينتُكِ ثلاثا لا رجعةَ لي فيها ، فعُمركِ قصير ، وخطرُكِ حقير ! آهِ منْ قِلّة الزاد ، وبُعد السّفر ، ووَحشةِ الطريق ! فبكى معاويةُ وقال : رَحِم اللّهُ أبا حسن ، كان واللّه كذلك ؛ فكيف حُزْنُك عليه يا ضِرار؟ قال : حزنُ مَن ذُبِح ولدُها في حِجْرها ۳ .

1.الاستيعاب ۱۱۰۷ و ۱۱۰۸ ، وهو أيضاً في أمالي الفالي ۲:۱۴۷ .

2.السليم : اللديغ .

3.تأمّل حال معاوية هذا الطليق ، مع علمه بفضل أمير المؤمنين عليه السلام ، واعترافه بعظمته وسابقته وتقواه ؛ يسنّ سبّه من على كل شاهقة ؛ تمرّدا على اللّه ، وعداوة لرسوله ، وبغضا للحق . ومع هذا يأتي علماء السوء فيعذرونه ويقولون إنّه : مجتهد مصيب لا إثم عليه ولا حرج . كذلك «ويُضِلُّ اللّه ُ الظّالِمِينَ» سورة إبراهيم ۲۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
416

75

الأصْلُ:

۰.ومن خبر ضرار بن حمزَةَ الضّبابي عند دخوله على معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول :يَا دُنْيَا ، إِلَيْكِ عَنِّي ، أَبِي تَعَرَّضْتِ ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟ لاَ حَانَ حِينُكِ ! هَيْهَات ! غُرِّي غَيْرِي ، لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَـلاَثاً ، لاَ رَجْعَةَ فِيهَا ! فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ . آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ، وَطُولِ الطَّرِيقِ ، وَبُعْدِ السَّفَرِ ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ!

الشّرْحُ:

السُّدُول : جمعُ سَدِيل ، وهو ما أسدل على الهَوْدَج ، ويجوز في جَمْعه أيضا أسْدال وسدائل ، وهو هاهنا استعارة . والتّـملْمُل والتملّل أيضا : عدمُ الاستقرار من المرض ، كأنه على مَلّة ، وهي الرّماد الحارّ . والسليم : الملسوع . ويُروى «تشوّقت» بالقاف .
وقوله : «لا حان حَينُك» ، دعاء عليها ، أي لا حَضَر وَقْتك ، كما تقول : لا كنت .
فأما ضِرارُ بن ضَمْرة ، فإنّ الرِّياشيّ رَوَى خبرَه ، ونقلتُه أنا من كتاب عبدِ اللّه بنِ إسماعيلَ بن أحمدَ الحلبي في ( التّذييل على نَهْج البلاغة ) ، قال : دخل ضِرارٌ على معاويةَ ـ وكان ضِرارٌ من صحابةِ عليّ عليه السلام ـ فقال له معاوية : يا ضرار ، صف لي عليّا ، قال : أوَتُعْفِيني ! قال : لا أُعْفيك ، قال : ما أصف منه ! كان واللّهِ شديدَ القُوَى ، بعيد الْمَدى ، يتفجّر العِلْم من أنْحائه ، والحكمةُ من أرْجائِه ، حَسَن المُعاشَرة ، سَهْل المباشرة ، خَشِن المأكَل ، قصير المَلبَس ، غَزير العَبْرة ، طويل الفِكْرة ، يقلّب كَفّه ، ويخاطِب نفسَه ، وكان فينا كأحدِنا ، يُجيبنا إذا سأَلْنا ، ويبتَدِئُنا إذا سكَتْنا ، ونحن مع تقريبه لنا أشَدّ ما يكون صاحبٌ لصاحبٍ هيبةً ، لا نبتدئه

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 113258
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي