هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري.

يعرِّفه الذهبي في تاريخه و يقول: له صحبة و رواية وشرف، ولي إمرة الكوفة و البصرة خلافة لزياد، و كان شديداً على الخوارج وقَتَلَ منهم جماعة، فكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه.(۱)

وقال أيضاً في سير اعلام النبلاء: انّه من علماء الصحابة، نزل البصرة، له أحاديث صالحة، روى عنه: ابنه سليمان، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة.

هذا ما يذكره الذهبي في بدء ترجمته و يصرّح بأنّه من علماء الصحابة، والصحابة عنده كلّهم عدول، و لكنّه يذكر في حقّه ما يدلّ على فسقه حيث يقول: عن أنس بن حكيم، قال: كنت أمرّ بالمدينة فألقى أبا هريرة فلا يبدأ بشيءحتى يسألني عن سمرة، فإذا أخبرته بحياته فرح، فقال: إنّا كنّا عشرة في بيت فنظر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوهنا ثمّ قال: «آخركم موتاً في النار» فقد مات منّا ثمانية فليس شيء أحبّ إليّ من الموت».

وروى أيضاً عن أوس بن خالد قال: كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة، فقلت لاَبي محذورة في ذلك، فقال: إنّي كنت أنا و هو وأبو هريرة في بيت فجاء النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» فقال: آخركم موتاً في النار، فمات أبو هريرة ثمّ مات أبو محذورة.

وروي عن ابن طاووس وغيره قال النبي لاَبي هريرة وسمرة بن جندب وآخر: «آخركم موتاً في النار» فمات الرجل قبلهما، فكان إذا أراد الرجل أن يُغيض أبا هريرة، يقول: مات سمرة، فيُغشى عليه ويصعق، فمات قبل سمرة.

ثمّ قال: وقتل سمرة بشراً كثيراً. ونقل عن عامر بن أبي عامر ، قال: كنّا في مجلس يونس بن عبيد فقالوا: ما في الاَرض بقعة نشفت من الدم مثل ما نشفت هذه ـ يعنون دار الاَمارة ـ قُتِلَ بها سبعون ألفاً فسألت يونس، فقال: نعم من بين قتيل و قطيع، قيل من فعل ذلك؟ فقال: «زياد و ابنه وسمرة».

ثمّ نقل عن أبي بكر البيهقي انّه قال: نرجو له بصحبته.(۲)

وذكر ابن الاَثير ما نقلناه عن الذهبي و قال: سكن البصرة و كان زياد يستخلفه عليها إذا صار إلى الكوفة، ويستخلفه على الكوفة إذا صار إلى البصرة فكان يكون في كلّ واحدة منهما ستة أشهر إلى آخر ما ذكر.(۳)

روى الطبري في حوادث سنة ۵۰، قال: عن محمد بن سليم قال: سألت أنس بن سيرين، هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يحصى من قتله سمرة بن جندب، استخلفه زياد على البصرة، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً ؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت.

وروى أيضاً عن أبي سوار العدوي قال: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن.(۴)

ونقل ابن أبي الحديد عن أُستاذه أبي جعفر انّه قال: و قد روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي انّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) : (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الخِصامِ* وَإِذا تَوَلّى سَعى فِي الاََرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ) (البقرة/۲۰۴ـ۲۰۵).

وانّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم. وهي قوله تعالى :(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه) (البقرة/۲۰۷) فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك.(۵)

هذه الروايات التي يعضد بعضها بعضاً، تعرب عن عدم صلاحه وفلاحه على خلاف ما ذكره الذهبي، و ذلك لا َُمور :

أوّلاً: انّ الرجل كان خليفة زياد بن أبيه السفّاح الذي ارتكب جرائم كثيرة في حقّ المسلمين وقتل الاَبرياء منهم بلا ذنب اقترفوه، أمثال حجر بن عدي وأصحابه فكيف يكون خليفته رجلاً صالحاً ؟!

ولا نريد هاهنا تعريفك بزياد بن عبيد، و يكفي في حقّه انّه ولد على فراش عُبيد، وكان أبو سفيان قد أتى الطائف قبل ذلك فسكر وطلب بغيّاً فواقع سمّية وكانت مزوجة بعُبيد فولدت زياداً من جماعة، فلما رآه معاوية استلحقه بأنّه أخوه، وكانت سمّية مولاة للحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب.

فهو ابن زانية ولد على فراش عُبيد، وانّ معاوية ألحقه بأبي سفيان، مع أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر.(۶)

وكفى في كونه سفّاكاً قول جابر بن زيد: كان زياد أقتل لاَهل دينه ممن يخالف هواه من الحجاج، و كان الحجاج أعلم بالقتل.

وقال ابن شوذب: بلغ ابن عمر انّ زياداً كتب إلى معاوية انّي قد ضبطت العراق بيميني، و شمالي فارغة، وسأله أن يولّيه الحجاز، فقال ابن عمر: اللّهمّ انّك إنْ تجعل في القتل كفارة فموتاً لابن سميّة لا قتلاً.

فخرج في إصبعه طاعون، فمات.

وقال الحسن البصري: بلغ الحسن بن علي انّ زياداً يتتبع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم، فدعا عليه.

وروى ابن الكلبي: أنّ زياداً جمع أهل الكوفة ليعرضهم على البراءة من علي، فخرج خارج من القصر فقال: أمّا الاَمير فمشغول، فانصرفوا، فإذا الطاعون قد ضربه سنة ثلاث و خمسين ومات على أثرها.(۷)

ثانياً: انّ سمرة كان سفّاكاً، وقد بلغ سفكه الدماء بمكان انّه بعد ما قتل ثمانية آلاف من أهل البصرة لما خشي أن يقتل مثلهم أيضاً كما مرّفي حديث أنس ابن سيرين.

وثالثاً: انّ سمرة ردّ طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره و خالفه حتى أسماه النبي بأنّه رجل مضار ، وإليك الحديث:

أخرج أبو داود عن واصل مولى أبي عيينة قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يحدِّث عن سمرة، انّه كانت لسمرة عضد من نخل في حائط رجل من الاَنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له ولك كذا و كذا أمراً رغبة فيه، فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول اللّهللاَنصاري: اذهب فاقلع نخله.(۸)

وعلى ضوء ذلك فالرجل فاسق و لم تصدُّه صحبته عن اقتراف الجرائم والآثام . ولو كان مجرد الصحبة منقذاً، لما كان مصير امرأتي نوح و لوط هو النار كما قال سبحانه: (ضََرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأةَ نُوح وَامْرَأَةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا مِنَ اللّهِ شَيئاً) .

والعجب انّه روى عنه أصحاب الصحاح والمسانيد، و مع غض النظر عن مناقشة السند نذكر بعض أحاديثه الرائعة التي لها عبق من أنوار النبوة ثمّنأتي ببعض رواياته السقيمة التي لا تصحّ نسبتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمخالفتها للاَُصول المسلمة التي أشرنا إليها في مقدمة الكتاب.

روائع أحاديثه

۱. أخرج أبو داود، عن الهياج بن عمران، انّعمران أبق له غلام فجعل للّه عليه لئن قدر عليه ليقطعنّ يده، فأرسلني لاَسأل له: فأتيت سمرة بن جندب فسألته، فقال: كان نبي اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يحثّنا على الصدقة و ينهانا عن المثلة.(۹)

۲. أخرج الترمذي عن الحسن، عن سمرة بن جندب: انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أيّ امرأة زوّجها وليّان، فهي للاَوّل منهما، و من باع بيعاً من رجلين فهو للاَوّل منهما.(۱۰)

۳. أخرج الاِمام أحمد، عن الحسن، عن سمرة بن جندب انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: البيّعان بالخيار مالم يفترقا.(۱۱)

۴. أخرج الاِمام أحمد، عن الحسن، عن سمرة انّ رسول اللّهنهى أنْ يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبتاع على بيعه.(۱۲)

۵. أخرج الاِمام أحمد، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» : الرجل أحقّ بعين ماله إذا وجده و يتبع البائع من باعه.(۱۳)

۶. أخرج الاِمام أحمد، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أحاط حائطاً على أرض فهي له.(۱۴)

۷. أخرج أبو داود، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي قال: على اليد ما أخذت حتّى توَدي.(۱۵)

۸. أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن سمرة بن جندب انّ رسول اللّه قال: من حدّث عني حديثاً يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين.(۱۶)

۹. أخرج ابن ماجة، عن ابن سمرة بن جندب، عن أبيه،قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من قتل فله السّلب.(۱۷)

۱۰. أخرج ابن ماجة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : الحسب المال، والكرم التقوى.(۱۸)

هذه جملة من أحاديثه التي يوَيد مضامينها الكتاب والسنة و اتّفاق المسلمين والعقل الحصيف، استعرضناها في مقابل ما نستعرضه من رواياته السقيمة وما أكثرها ونقتصر على قسم منها.

أحاديثه السقيمة

۱. الميت يعذب بالنياحة عليه

أخرج أحمد، عن قتادة ،عن الحسن، عن سمرة ،عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الميت يعذّب بما نيح عليه.(۱۹)

هذه الرواية رواها غيره أيضاً ، و قد سبق منّا انّها تخالف الكتاب العزيز والعقل الحصيف، وذكرنا انّ الرواية لم تنقل على وجه صحيح، وذكرنا كلام السيدة عائشة في هذا المضمار وما فيه من الاِشكال.

۲. لا عبرة بأذان بلال

أخرج الترمذي، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال و لا الفجر المستطيل و لكن الفجر المستطير(۲۰)في الاَُفق.(۲۱)

وأخرج أحمد في مسنده، عن سمرة قال: لا يغرّنكم أذان بلال و لا هذا البياض لعمود الصبح حتى يستطير.(۲۲)

أقول: لولا انّ الرواية تضمنت حكماً صحيحاً، و هو عدم الاعتداد بعمود الصبح، وإنّما العبرة باعتراض البياض كان في وسع الباحث أن يتردد في صحّة الرواية، ويقول إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي نصب بلالاً للاَذان وكان بلال يوَذّن قبل الوقت، فلماذا نصب إنساناً لانجاز عمل غير عارف به؟

أضف إلى ذلك انّه إذا كان بلال يوَذّن قبل الوقت في أغلب الاَحيان على وجه يفسد عبادات الناس و صلواتهم كان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إرشاده.

۳. خلق المرأة من ضلع

أخرج أحمد في مسنده، عن عون قال: و حدّثني رجل، قال : سمعت سمرة يخطب على منبر البصرة و هويقول: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ المرأة خلقت من ضلع وانّك إنْ ترد إقامة الضلع تكسرها فدارها تعش بها.(۲۳)

إنّ الحديث ـ مع إرساله ـ من الاِسرائيليات المندسّة في أحاديث المسلمين وهو موجود في التوراة المحرّف في سفر التكوين.قال:و بنى الرب الاِله الضلع التي أخذها من آدم، امرأة واحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي....(۲۴)

إنّ مضمون الحديث يخالف القرآن الكريم حيث يرى للمرأة خلقاً مستقلاً مماثلاً مع خلق الرجل، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهما رِجالاً كثِيراً ونِساءً)(النساء/۱).

والمراد من قوله : (وخَلَقَ مِنْها زَوجَها) أي خلق من جنسها زوجها فالذكر و الاَُنثى من جنس واحد و إن كانا يختلفان صنفاً.

ولفظة «من» في «منها» لبيان الجنسية كقولك: خاتم من فضة.

۴. جواز حلب الماشية بغير إذن صاحبها

أخرج أبو داود، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب انّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحلب وليشرب، فإن لم يكن فيها فليصوِّت ثلاثاً، فإن أجابه فليستأذنه، وإلاّفليحتلب و ليشرب ولا يحمل.(۲۵)

ورواه الترمذي في باب ما جاء في احتلاب المواشي بغير إذن مالكها، ثمّ قال: حديث سمرة حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، و به يقول أحمد و إسحاق.(۲۶)

ولنا معه وقفة قصيرة وذلك انّه مخالف لما اتّفق عليه المسلمون من أنّه لا يجوز التصرف في مال الغير دون إذنه، ورووا عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: لا يحلّمال امرىَ مسلم إلاّبطيب نفس منه.(۲۷)

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته المعروفة في حجّة الوداع: «إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا».(۲۸)و الحديث وإن كان يحتمل أن يكون مخصصاً للعموم لكن لسان العموم آبٍ عن التخصيص ولذلك يكون المضمون منكراً غير مطابق للاَُصول.

۵. الاِذن في شرب النبيذ بعدما نُهي عنه

أخرج الاِمام أحمد، عن منذر أبي حسان، عن سمرة بن جندب انّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أذن في النبيذ بعدما نهى عنه.(۲۹)

أقول: اجتمعت الاَُمّة الاِسلامية على تحريم الخمر، وهي عصير العنب الذي اشتد وأسكر، وأمّا غيرها المتخذ من الزبيب أو التمر أو الشعير أو الذّرة ففيها اختلاف وتفصيله لا يسع المقام.

والذي يمكن أن يقال: إنّكلّ شراب كان بجنسه مسكراً فهو حرام، سواء صار سبباً للاِسكار أو لا، و يدلّ على ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة، قالت:

سئل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن البتع، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام.(۳۰)

وفي رواية أُخرى عنها: سئل رسول اللّه عن البتع و هو نبيذ العسل و كان أهل اليمن يشربونه، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : كل شراب أسكر فهو حرام.(۳۱)

والمراد من قوله: أسكر، أي ما كان بجنسه مسكراً لا ما يكون مسكراً لنفس الشارب، و إلاّ يلزم أن يكون حراماً لشخص إذا أسكره و غير حرام لشخص آخر إذا لم يسكره لوجود الاختلاف في الاَمزجة و غيرها.

وعلى ضوء ذلك فما رواه سمرة من نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن النبيذ ثمّ تجويزه يجب أن يتوارد المنع والجواز على موضوع واحد، فلا يخلو إمّا أن يكون الموضوع هو النبيذ المسكر أو غيره، أمّا الثاني فيبعد ورود النهي عليه ثمّ رفعه، و قد كان أهل المدينة ينبذون تمراً في المياه المعدّة للشرب في أوّل الليل لاِذهاب مرّها ثمّ يشربونها صباحاً، فلا وجه لورود المنع والاِباحة على مثله، فينحصر الموضوع بالمسكر منه، وهذا يعني انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عنه ثمّرخص فيه مع أنّه مناف لما رواه البخاري عن السيدة عائشة انّه حرم كلّمسكر.

مضافاً إلى أنّه كيف يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرخص ما يزيل العقل ويسكره؟!

وللكلام صلة، فمن أراد فليرجع إلى الخلاف للشيخ الطوسي.(۳۲)

۶. الدجال يبرىَ الاَكمه والاَبرص

أخرج الاِمام أحمد، عن الحسن، عن سمرة بن جندب انّ نبي اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» كان يقول: إنّ الدجال خارج و هو أعور عين الشمال، عليها ضفرة غليظة، و انّه يبرىَ الاَكمه و الاَبرص ويحيي الموتى، ويقول للناس: أنا ربّكم، فمن قال: أنت ربّي فقد فتن، و من قال: ربّي اللّه حتى يموت فقد عصم من فتنته ولا فتنة بعده عليه ولا عذاب، فيلبث في الاَرض ما شاء اللّه، ثمّ يجيىَ عيسى ابن مريم (عليهما السلام) من قبل المغرب مصدقاً بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى ملته فيقتل الدجال، ثمّ إنّما هو قيام الساعة.(۳۳)

أقول: إنّ مضمون الحديث يخالف العقل و النقل.

أمّا العقل فلاَنّه يستقل بقبح منح القدرة الخارجة عن العادة للكذابين الموجب لافتتان الناس، والظاهر من الرواية أعني قوله: «فيلبث في الاَرض ما شاء اللّه» انّه يعيش في الاَُمّة الاِسلامية سنين متمادية، و يقوم بما يقوم به المسيح من إبراء الاَكمه والاَبرص و إحياء الموتى، فيضلُّ الناس بمعاجزه وكراماته التي أعطاها اللّه سبحانه له . هذا من جانب و من جانب آخر انّ الناس بطبيعتهم مفتونون بمن يصدر عنه المعاجز حيث يجعلون قدرته على أُمور خارقة للعادة دليلاً على صدق مدّعاه أعني قوله: «أنا ربّكم» فيَضلّون واحد بعد آخر، وعندئذٍ فما ذنبهم إذا آمنوا به مع وجود أرضية خصبة للاِيمان به؟!

وأمّا النقل، فإنّه سبحانه يقول: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الاََقاوِيل * لاََخَذْنا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحدٍ عَنْهُ حاجِزِين)(الحاقة/۴۴ ـ ۴۷).

يستدل سبحانه على صدق كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لو تقوَّل علينا هذا الرسول (الذي زوّدناه بمعاجز من أهمها القرآن الكريم) و نسب إلينا ما لم نقله لانتقمنا منه بشدة وقتلناه، فما منكم من أحد عنه حاجزين، و ما ذلك إلاّ لاَنّ تسليط الاِنسان الكاذب المفتري، على قوّة خارقة يوجب افتتان الناس به، و يصير سبباً لاِضلالهم، فمقتضى حكمته أن لا يمهله بل يأخذه باليمين.

وعلى ضوء ذلك فالدجال إذا قام بما يقوم به المسيح (عليه السلام) من الاِبراء والاِحياء مع تقوّله بأنّه «ربّكم» يكون ذلك سبباً لاِضلال الناس، فمقتضى الحكمة عدم تزويده بهذه القدرة منذ أوّل الاَمر إذا كان متقوّلاً به، أو عدم إمهاله إذا صار سبباً لاِضلالهم.

۷. وحي الشيطان إلى حواء

أخرج الترمذي، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما حملت حواء طاف بها إبليس و كان لا يعيش لها ولد، فقال: سمّيه عبد الحارث، فسمّته بعبد الحارث، فعاش ذلك، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره.(۳۴)

وثمة تساوَلات:

أوّلاً: انّه سبحانه يصف إبليس بأنّه عدو لآدم و زوجه، يقول سبحانه: (فَقُلنا يا آدَمُ إِنّ هذا عَدُوٌ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرجَنّكُما مِنَالجَنَّةِ فَتَشْقى)(طه/۱۱۷) . ومع ذلك كيف أسدى لها النصح، وقال: لها سمّيه عبد الحارث فسمّته به، فصار سبباً لحياته، وهذا أشبه بكلام الناصح لا العدو؟!

ثانياً: انّ معنى الحديث انّ تسمية حواء ابنها بعبد الحارث ـ الذي فيه شائبة الشرك والوثنيةـ كانت موَثرة في بقاء طفلها، وهل يصح ذلك؟ إذ معناه أنّ التسمية لو تغيرت إلى عبد اللّه لما أثّر في بقاء الطفل.

ثالثاً: لم يذكر في التاريخ أبداً انّه كان لحواء ابن اسمه عبد الحارث، سوى ولدين ذكرين: قابيل و هابيل، فمن أين هذا الولد مع اسمه؟!

۱. الذهبي: تاريخ الاِسلام، في الجزء المختص بحوادث عهد معاوية، ص ۲۳۱.

۲. سير أعلام النبلاء: ۳/۱۸۳ـ۱۸۵.

۳. الجزري، أُسد الغابة: ۲/۳۵۴.

۴. تاريخ الطبري: ۳/۱۷۶.

۵. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ۴/۷۳.

۶. سير أعلام النبلاء:۳/۴۹۴ برقم ۱۱۲.

۷. تاريخ الاِسلام للذهبي، في الجزء المختص بعهد معاوية، ص ۲۰۹.

۸. سنن أبي داود:۳/۳۱۵ برقم ۳۶۳۶، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

۹. سنن أبي داود:۳/۵۴ برقم ۲۶۶۷؛ مسند أحمد: ۴/۴۲۸.

۱۰. سنن الترمذي: ۳/۴۱۸ برقم ۱۱۱۰، وأخرجه أبو داود في سننه برقم ۲۰۸۸.

۱۱. مسند أحمد: ۵/۲۲.

۱۲. مسند أحمد: ۵/۱۱.

۱۳. مسند أحمد: ۵/۱۳.

۱۴. مسند أحمد: ۵/۱۲؛ سنن أبي داود:۳/۱۷۹ برقم ۳۰۷۷.

۱۵. سنن أبي داود: ۳/۲۹۶ برقم ۳۵۶۱؛ مسند أحمد:۵/۸.

۱۶. صحيح مسلم:۱/۷، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكاذبين.

۱۷. سنن ابن ماجة: ۲/۹۴۷ برقم ۲۸۳۸.

۱۸. سنن ابن ماجة: ۲/۱۴۱۰ برقم ۴۲۱۹؛ مسند أحمد: ۵/۱۰.

۱۹. مسند أحمد:۵/۱۰.

۲۰. يريد من المستطير الذي ينتشر ضووَه ويعترض في الاَُفق ويقابله المستطيل.

۲۱. سنن الترمذي: ۳/۸۶ برقم ۷۰۶؛ وأخرجه الاِمام أحمد في مسنده: ۵/۹.

۲۲. مسند أحمد: ۵/۱۳.

۲۳. مسند أحمد: ۵/۸۵.

۲۴. التوراة، سفر التكوين، الاصحاح الثاني برقم ۲۳ـ۲۴.

۲۵. سنن أبي داود: ۳/۳۹ برقم ۲۶۱۹.

۲۶. سنن الترمذي: ۳/۵۹۰ برقم ۱۲۹۶.

۲۷. مسند أحمد:۵/۷۲.

۲۸. السيرة النبوية لابن هشام:۴/۲۵۲.

۲۹. مسند أحمد:۵/۱۲.

۳۰. البخاري، الصحيح: ۷/۱۰۵، كتاب الاَشربة.

۳۱. البخاري، الصحيح: ۷/۱۰۵، كتاب الاَشربة.

۳۲. الخلاف: ۵/۴۷۳ـ ۴۸۸.

۳۳. مسند أحمد: ۵/۱۳.

۳۴. سنن الترمذي:۵/۲۶۷ برقم ۳۰۷۷؛ ورواه الاِمام أحمد في مسنده: ۵/۱۱.