هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الاَنصاري الخزرجي ثمّ النجّاري، أُمّه النوار بنت مالك بن معاوية بن عدي بن النجّار، كنيته أبو سعيد، وكان عمره لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة إحدى عشرة سنة، وكان يوم بعاث ابن ست سنين، وفيها قتل أبوه واستصغره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر فردّه، وشهد أُحداً، وقيل: لم يشهدها، وإنّما شهد الخندق أوّل مشاهده، وكانت راية بني مالك بن النجار يوم تبوك بيد زيد بن ثابت.(۱)

وقد أطراه أصحاب المعاجم بأُمور وربّما ذكروا ما يخالفها.

هل كان زيد جامعاً للقرآن؟

إنّ أبا بكر قال له: أنت رجل شاب عاقل لانتَّهمُك قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فتتبّعِ القرآن فاجمعه.

فقال زيد: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

قال: هو واللّه خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الاَنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه اللّه تعالى، ثمّ عند عمر حياته، ثمّعند حفصة بنت عمر.(۲)

يلاحظ عليه، أوّلاً: أنّ البخاري نقل انّ القرآن جمع في عصر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأحد الجامعين هو زيد بن ثابت، فروى عن أنس، قال: مات النبي ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، و معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قال: ونحن ورثناه(۳)ومعه كيف يكون جامعاً للقرآن أيضاً بعد رحيله؟!

ثانياً: لو صحّ ما في الخبر، و افترضنا أنّه لم يجمع القرآن في عهد الرسول، كان اللازم على الخليفة أبي بكر أن يترك جمع القرآن الكريم إلى عبد اللّه بن مسعود، الذي يروي البخاري عنه، انّه قال : واللّه الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب اللّه إلاّ أنا أعلم أين أُنزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب اللّه إلاّأنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منّي بكتاب اللّه تبلغه الاِبل لركبت إليه.(۴)

كما روى البخاري أيضاً عن مسروق: أنّه ذكر عبد اللّه بن عمرو، عبدَ اللّه بن مسعود، فقال: لا أزال أحبه، سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خذوا القرآن من أربعة من: عبد اللّه بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبي بن كعب.

كما روى أيضاً، انّه خطب عبد اللّه بن مسعود، وقال: واللّه لقد أخذت من في رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بضعاً وسبعين سورة، واللّه لقد علم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انّي من أعلمهم بكتاب اللّه وما أنا بخيرهم قال شقيق: فجلست في الحِلَق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادّاً يقول غير ذلك.(۵)

ومع هذه الروايات التي رواها البخاري في حق عبد اللّه بن مسعود، فمن البعيد أن يترك الخليفة ذلك المقرىَ الكبير ويلتجىَ إلى شاب أدرك من عصر الرسالة عشرة أعوام وهو بعدُ صبيّ لم يبلغ الحُلُم، ويترك عبد اللّه بن مسعود أحد السابقين في الاِسلام، أدرك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة.

كلّ ذلك يرشدنا إلى أنّجمع القرآن الكريم بعد رحيل الرسولبيد زيد ابن ثابت مزعمة لا يذعن لها العقل ولا النقل.

وأعجب منه انّقاطبة المسلمين لم يحفظوا آخر آية سورة التوبة حتى زيد بن ثابت نفسه، فأخذها من أبي خزيمة أحد الصحابة.

أو ليس معنى ذلك انّالمعجزة الكبرى والسند الوثيق للاِسلام، لم يصل إلى المسلمين بطريق متواتر، بل وجده الجامع عند واحد من الصحابة فأدرجه في القرآن، وهذا إنكار لتواتر القرآن وبالتالي إنكار تلك المعجزة الكبرى.

وثمة نكتة جديرة بالامعان وهي:

إنّ هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فانّ عظمة القرآن بنفسه، واهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما تستوجب تلاوة القرآن من الثواب، كل ذلك يبعثنا إلى القول بأنّ القرآن جمع في عهد الرسالة، وينافي القول بجمعه على النحو المذكور في تلك الروايات.

إنّ العقل الصريح يحكم بأنّ قائداً كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان واقفاً على أنّالقرآن دعامة دينه ومعجزة شريعته والمرجع الاَوّل للاَُمّة إلى يوم القيامة في العقيدة والشريعة، لا يمكن أن يترك القرآن في مهبّ الرياح مبعثراً بين الرقاع والاكتاف بين العسب وصدور الرجال، دون أن يجمعه في كتاب ويدونه كي يكون حجّة خالدة على مدى العصور. فمن زعم انّ الرسولمضى ولم يبذل عناية كافية في جمع القرآن وتدوينه وصيانته عن طروء الحوادث، فقد جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير معنيّ بقوام شريعته وبرهان رسالته وشوَون أُمّته.أعاذنا اللّه وإيّاكم من تلك الفكرة الخاطئة.

هذا هو موجز البحث عن المفخرة الاَُولى التي أثبتها أصحاب المعاجم لزيد بن ثابت وانّه الجامع للقرآن بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المعدّة لهذا الغرض.

هل كان زيد أعلم بالفرائض؟

قد ذكر غير واحد من أصحاب المعاجم انّزيداً أفرض الصحابة وأعلمهم بالفرائض.

روى ابن سعد في طبقاته عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أفرض أُمّتي زيد بن ثابت.

وروى أيضاً، انّ عمر وعثمان ما كانا يُقدِّمان على زيد بن ثابت أحداً في الفرائض، و الفتوى، والقراءة، والقضاء، كما روى عن عمر بن الخطاب، انّه قال: من كان يريد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت.(۶)

ونقل الذهبي عن الشعبي، انّه قال: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن.(۷)

أقول: ما نقله عن الشعبي فقد نقل عنه خلافه.

قال ابن شهر آشوب في بيان انّ علياً هو المرجع في جميع العلوم الاِسلامية، ما هذا لفظه: و منهم الفرضيون وهو أشهرهم فيها؛ ثمّ نقل عن فضائل الصحابة لاَحمد، عن طريق ابنه، انّه قال: إنّأعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال الشعبي: ما رأيت أفرض من علي (عليه السلام) ولا أحسب منه، وقد سئل عنه وهو على المنبر يخطب عن رجل مات وترك امرأة وأبوين وابنتين، كم نصيب المرأة؟ فقال: صار ثمنها تسعاً، فلقّبت بالمسألة المنبرية.

شرح ذلك: للاَبوين السدسان، وللبنتين الثلثان، وللمرأة الثمن، عالت الفريضة فكان لها ثلاث من أربعة وعشرين ثمنها، فلمّا صارت إلى سبعة وعشرين صار ثمنها تسعاً، فإنّ ثلاثة من سبعة وعشرين تسعها، ويبقى أربعة وعشرون، للابنتين ستة عشر، وثمانية للاَبوين سواء، قال: هذا على الاستفهام، أو على قول القائلين بالعول، فلذا صار ثمنها تسعاً، أو سئل كيف يجيء الحكم على مذهب من يقول بالعول؟ فبيّن الجواب والحساب والقسمة والنسبة.

ومنه المسألة الديناريّة.(۸)

وكان ابن عباس يردّ على زيد قوله بالعول في الفرائض، فمن ذلك قوله:

إنشاء، أو قال: من شاء باهلته، إنّالذي أحصى رمل عالج عدداً أعدل من أن يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟(۹)

وللاِمام الصادق ردٌّ على ما قضى به زيد بن ثابت في مسألة، وهي: إذا ماتت امرأة وتركت زوجها وإخوة، وأُمّها وأُختاً لاَبيها؛ فمن أراد التفصيل فليرجع إلى تهذيب الاَحكام.(۱۰)

كان زيد عثمانيَّ الهوى

ذكر الجزري انّ زيداً كان عثمانياً، ولم يشهد مع علي شيئاً من حروبه، وكان يظهر فضل عليّ وتعظيمه، وهو من الذين لم يبايعوا علياً عند ما بايعه وجوه المهاجرين والاَنصار، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يكتم فضائل علي (عليه السلام) ومناقبه.

روى يعقوب بن سفيان بسنده، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّي تارك فيكم خليفتي: كتاب اللّه عزّوجلّ، وعترتي أهل بيتي؛ وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.(۱۱)

وهو أحد رواة حديث الغدير من الصحابة.(۱۲)

روائع أحاديثه

۱. أخرج مسلم في صحيحه، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، قال: احتجر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلي فيها. قال: فتتبّع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته، قال: ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال: فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مغضباً.

فقال لهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت انّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فانّخير صلاة المرء في بيته، إلاّ الصلاة المكتوبة.(۱۳)

إنّ هذه الرواية تُعد من الاَدلة الواضحة على عدم جواز إقامة نوافل رمضان جماعة، وانّإقامتها كذلك بدعة حدثت بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد بسطنا الكلام عنها في كتابنا «البدعة».(۱۴)

۲. أخرج ابن ماجة في سننه، عن أبي هبيرة الاَنصاري، عن أبيه ، عن زيد ابن ثابت، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : نضَّر اللّه امرأً سمع مقالتي فبلّغها، فربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

زاد فيه عليّبن محمد: «ثلاث لا يُغلُّ عليهنَّ قلب امرىَ مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصح لاَئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم.(۱۵)

۳. أخرج أحمد، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّي تارك فيكم خليفتي، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والاَرض، أو ما بين السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، وانّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض(۱۶)

هذه بعض رواياته الرائعة استعرضناها، فلنعطف عنان الكلام إلى ما عُزِي إليه مما يخالف الموازين السالفة الذكر.

احاديثه السقيمة

۱. عذاب بلا ذنب

أخرج ابن ماجة في سننه، عن ابن الديلمي، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول اللّه، يقول: لو انّ اللّه عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم. ولو كان لك مثل أُحد ذهباً أو مثل جبل أُحد ذهباً تنفقه في سبيل اللّه ما قبله منك حتى توَمن بالقدر كله . فتعلم انّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وانّك إن متَّ على غير هذا دخلت النار.(۱۷)

والحديث وإن نقل عن ثلة من الصحابة كأبي بن كعب، وعبد اللّه بن مسعود، وزيد بن ثابت، لكن يرده العقل الحصيف و الفطرة السليمة، إذ انّ هنا كلاماً مع غض النظر عن مسألة التحسين والتقبيح وهل هما عقليان أو شرعيان وهو:

إنّ الوجدان خير شاهد على قبح تعذيب البريء من أي فاعل صدر، سواء كان الفاعل هو الواجب أو الممكن، فلو لم يتمكن العقل من درك هذا المقدار من التحسين والتقبيح فلا يصحّ له القضاء في أيّ أمر يمتّ إليه بصلة.

نعم انّ السماوات والاَرض وما فيهما ملك للّه تبارك وتعالى لا ينازعه فيها أحد، فلو عذب أهلهما لا يمنعه منه شيء، ولكن هل يجوز له حسب حكمته وعدله أن يعذب البريء، ويدخل الطفل الرضيع النار بحجة انّه ملكه؟ كلاّ.لا، إذ عندئذٍ يكون ظالماً وجائراً ويكون مناقضاً لحكمته وعدله.

وقد احتكم سبحانه في غير واحد من المسائل إلى العقل والفطرة، فقال: (أَفَنَجْعَلُالمُسْلِمينَ كَالْمُجْرِمينَ) (القلم/۳۵) ويقول سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات كَالمُفْسِدِينَ فِي الاََرْضِأَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجّار )(ص/۲۸) أي لا نجعلهما على حد سواء لاَنّه قبيح.

انّ المتبادر من الآيات الآمرة بالعدل والناهية عن الظلم هو انّ الاِنسان إذا رجع إلى فطرته تتجلى له تلك الحقيقة ويتميّز عنده العدل عن الظلم دون أدنى ريب، يقول سبحانه: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِوَالاِِحْسانِ وَإِيتاءِذِي القُرْبى وَيَنْهى عَنِ الفَحْشاءِوَالمُنْكَرِوَالبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/۹۰).

والدليل على ذلك انّ كلّ إنسان يدرك من صميم ذاته معنى العدل والظلم وغيرهما ممّا يرجع إلى محاسن الاَفعال ومساويها، ولا يصحّ الاَمر بالعدل ولا النهي عن الظلم إلاّ إذا كان الموضوع (العدل و الظلم) محدداً معروفاً للمكلّف مع قطع النظر عن التشريع، وإلاّ يلزم الخطاب بأمر لم يكن المخاطب واقفاً عليه.

فإذا شهد سبحانه على قيامه بالعدل والقسط أو شهد على نفسه بأنّه ليس بظالم ولا ظلام ولا يظلم الناس، فمعنى ذلك انّه سبحانه يصف نفسه بالعدل والظلم بالمعنى المعروف عند العقلاء قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إِلهَ إِلاّهُوَ وَالْمَلائِكَة وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ ) (آل عمران/۱۸)، وقال سبحانه:(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد) (آل عمران/۱۸۲) وقال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلكِنّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/۴۴).

فاللّه عادل بنفس المعنى الذي ندركه عن العدل، و ليس بظالم بنفس ذلك المعنى الذي ندركه عن الظلم، و من المعلوم انّ تعذيب أهل الاَرض والسماوات بلا جرم وإثم ظلم يقبحه العقل، ولا يُنسب إلى اللّه سبحانه لمنافاته العدل، فكيف يصحّ أن يقال: إنّ اللّه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم؟! بل يكون ظالماً قطعاً تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

إنّ إنكار إدراك العقل الاَُمور البديهية في مجال الحسن والقبح إعدام للعقل وإطاحة به، ومع رفضه في مجال العقائد لا يمكن أن يثبت شيء من المعارف الاِلهية، فلو أنكرنا قضاء العقل بقبح الكذب أو قبح تزويد الكاذب بالكرامات لا يصح إثبات نبوّة أيّ أحد ولو جاء بمعاجز باهرة، لاحتمال الكذب عليه وعلى مرسله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

۲. اتخاذ اليهود قبور الاَنبياء مساجد

أخرج أحمد في مسنده، عن عبد الرحمان بن ثوبان، عن زيد بن ثابت: انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لعن اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.(۱۸)

إنّ ظاهر الرواية يعرب انّ قاطبة اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وما هذا إلاّبسبب التكريم والتبجيل، سواء اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يصلّون فيها أو تبركاً بهم أو يسجدون على قبورهم على نحو يكون القبر مسجوداً عليه أو يسجدون لهم بحيث يكون الركوع والسجود للاَنبياء.

وعلى جميع التقادير (وإن كان التقدير الاَخير بعيداً) فعملهم ـ لو صحّ ـ يعرب عن تكريمهم لاَنبيائهم وتبجيلهم لهم. هذا هو معنى الحديث.

ومن جانب آخر إنّتاريخ اليهود حافل بقتل الاَنبياء والرسل، فكيف يمكن الجمع بين مضمون الحديث والآيات الصريحة الدالة على تحقيرهم لاَنبيائهم؟!

قال سبحانه: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لاتَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون) (البقرة/۸۷) وقال سبحانه: (لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَولَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقتلَهُمُ الاََنْبياءَبِغَيْرِحَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَالحَرِيق) (آل عمران/۱۸۱) إلى غير ذلك من الآيات المندِّدة بعمل اليهود.

إنّهذا الحديث الذي اتخذه ابن تيمية وابن قيم الجوزيّة ومن لفّ لفّهما ذريعة إلى تحريم الصلاة عند قبور الاَنبياء، حديث لا يعتمد عليه مهما صحّ سنده، لاَنّ المضمون يخالف صريح القرآن والسيرة الثابتة عند اليهود، فانّ اليهود لم يكونوا أهل تكريم وتبجيل لاَنبيائهم، أفمن المعقول عندئذ أن يتخذوا قبورهم مصلّـى؟!وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا «الوهابية في الميزان».

۳. حرمان بعض الورثة من الميراث

أخرج أحمد في مسنده عن راشد، عن زيد بن ثابت، انّه سئل عن زوج، وأُخت لام، وأب فأعطى الزوج النصف و الاَُخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول اللّه قضى بذلك.(۱۹)

أقول: لو قلنا بأنّ لفظ «وأب» معطوف على «أُخت» فالوارث في المسألة ثلاثة وهم: بين وارث ذي فرض، ووارث بالقرابة، أمّا الاَوّل فالزوج يرث النصف من المال، والاَُخت لا َُمّ ترث السدس، قال سبحانه في حقّ الزوج: (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَد) (النساء/۱۲).

وقال سبحانه في حقّالاَُخت للاَُمّ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرأةٌ وَلَهُ أَخٌ أَو أُختٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُس) (النساء/۱۲).

وأمّا الثاني كالاَب فلو كان المورّث ذا ولد ففرضه السدس، لكنَّه خلاف المفروض وإلاّفلا فرض له في الكتاب العزيز، قال سبحانه: (ولاََبَويْهِ لِكُلّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلاَُمّهِ الثُلُث) (النساء/۱۱) وهو يرث ما بقي بعد إخراج سهام ذوي الفروض وعلى ضوء ذلك ففي المسألة :

يرث الزوج النصف.

والاَُخت السدس.

والباقي أي الثلث للاَب.

ومع ذلك فكيف ورّث أفرض الصحابة الزوج النصف والاَُخت النصف الآخر وحرم الاَب؟!

هذا إذا قلنا بأنّ الورثة كانوا ثلاثة، وأمّا لو قلنا بعطف لفظ الاَب على الا َُمّ وانّ المراد الا َُخت لاَب وأُم فالوارث اثنان وتقسيم التركة صحيح حسب الذكر الحكيم.

أمّا في جانب الزوج فقد عرفت، وأمّا في جانب الا َُخت فلقوله سبحانه: (إنِ امروٌَا هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصفُ ما تَرَكَ) (النساء/۱۷۶) لكن يرد على الجواب بأنّ أفرض الصحابة غفل عن النص القرآني، وبرّر عمله بقضاء رسول اللّه بذلك.

۴. تحريف القرآن الكريم

أخرج أحمد في مسنده عن كثير بن الصلت، قال: كان ابن العاص، وزيد ابن ثابت يكتبان المصاحف، فمرّوا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة»

فقال عمر: لمّا أنزلت هذه أتيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقلت: اكتبنيها.

قال شعبة: فكأنّه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى انّ الشيخ إذا لم يحصن جلد وانّ الشّابّإذا زنى، وقد أحصن رجم.(۲۰)

أقول: إنّ القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة الذي يتميز بأُسلوبه ومضمونه.

والعبارة المحكية عن الخليفة ـ بأنّه من القرآن الكريم ـ كلام حيك على نسق قوله سبحانه: (الزّانيةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مائةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأفَةٌ في دِينِ اللّهِ) (النور/۲).

أو قوله سبحانه: (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبَا نَكالاً مِنَ اللّه) (المائدة/۳۸).

ولو افترضنا انّ زيداً سمع من رسول اللّه قوله: «الشيخ و الشيخة إذا زنيا » فلا يكون ذلك دليلاً على أنّه من القرآن الكريم، بل هو كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقاه لبيان حكم اللّه الشرعي.

ثمّ إنّ القول بالتحريف يخالف النصّ الصريح للذكر الحكيم، قال سبحانه: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر/۹).

وقال سبحانه: (لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَمِيد) (فصلت/۴۲) وأيُّ باطل أوضح من تطرّق الزيادة والنقيصة إلى تلك المعجزة الخالدة.

والعجب انّالذين يروون هذه الروايات الضعيفة يتهمون الشيعة بالتحريف، وفاتهم انّ العثور على رواية في هذا الصدد في كتبهم لاتكون دليلاً على العقيدة، وعلى فرض التسليم فكتب هوَلاء أيضاً تعجّ بالاَحاديث التي تدل على التحريف.

۵. عدم سجود النبي عند قراءة سورة النجم

أخرج أبو داود في سننه، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت، قال: قرأت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) النجم فلم يسجد فيها.(۲۱)

إنّ الحديث يخالف ظاهر القرآن الكريم حيث ورد فيه السجود بصيغة الاَمر الظاهر في الوجوب، قال سبحانه: (أَفَمِنْ هذا الحَديثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سامِدُونَ * فاسجُدُوا للّهِ واعْبُدُوا) (النجم/۵۹ـ ۶۲).

نعم لو ثبت فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون قرينة على حمل الاَمر في الآية على استحباب السجود لكن الروايات المتضافرة دلّت على وجوبه.

أخرج البخاري، والترمذي وابن مردويه عن ابن عباس، قال: سجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والاِنس.

وأخرج أحمد والنسائي وابن مردويه عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة (والنجم) فسجد وسجد من معه.

وأخرج سعيد بن منصور، عن سبرة، قال: صلّى بنا عمر بن الخطاب الفجر، فقرأ في الركعة الاَُولى سورة يوسف، ثمّ قرأ في الثانية النجم، فسجد، ثمّ قام: فقرأ إذا زلزلت ثمّ ركع.(۲۲)

۶. العثور على آية عند خزيمة

أخرج البخاري في صحيحه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، انّ زيد بن ثابت، قال: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الاَحزاب كنت أسمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ بها، فلم أجدها إلاّمع خزيمة بن ثابت الاَنصاري الذي جعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته شهادة رجلين، وهو قوله: (مِنَ المُوَْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْه) .(۲۳)

قد عرفت أنّ القرآن الكريم جمع في عصر الرسالة وانّ القول بجمعه بعد رحيله يخالف العقل والنقل.

والعجب انّ القرآن الكريم الذي كان يسمعه مئات الصحابة وهم يعدون في طليعة الحفّاظ كيف نسي الجميع هذه الآية على وجه لم يجدها زيد بن ثابت إلاّ عند خزيمة بن ثابت؟! ومعنى ذلك انتهاء القرآن الكريم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخبر الواحد، وكون شهادة خزيمة تعادل شهادة رجلين لا يخرجها عن حدّ خبر الواحد.

على أنّ زيداً قد اعتمد في كتابة آخر آية من سورة البراءة على نفس ذلك الشخص، وفاته انّ تلك التشبثات لا تضفي على القرآن وصف التواتر.

۷. نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابة الحديث

أخرج أبو داود في سننه، عن المطلب بن عبد اللّه بن حنطب، قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية، فسأله عن حديث فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه.(۲۴)

إنّ البحث في منع الرسول عن كتابة حديثه ذو شجون، وقد استوفينا الكلام فيه في مقدمة هذا الكتاب، فلو كان الرسول أمر بمحو ما كتب فهو «صلى الله عليه وآله وسلم» أُسوة، كما قال اللّه تبارك وتعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (الاَحزاب/۲۱).فلنقتد جميعاً برسول اللّه ولنحرق جميع الصحاح والمسانيد والسنن، ولم يكن أمر الرسول أمراً موَقّتاً مقطعياً وإنّما كان أمراً شمولياً عبر الزمان، أفيصح ذلك في منطق العقل؟! كيف ولو انفصلنا عن السنة لخفي علينا معالم الدين والشريعة؟!

كيف يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمحو كتابة الحديث مع أنّه كتب إلى الاَساقفة وشيوخ القبائل والروَساء كتباً ورسائل اتّفق فيها معهم على أُمور؟ وهذه الكتب كانت موجودة في أيدي الناس ولم يأمر رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» بمحوها وإبطالها.

أمر القرآن الكريم بكتابة الدين مهما كان صغيراً أو كبيراً، أو ليس لكلامه ـ نعوذ باللّه ـ قيمة بمقدار الدين.

كلّذلك يعرب عن أنّ المنع عن كتابة الحديث كان منعاً سياسياً من جانب الخلفاء، ولم يكن له أصل دينيّ، ولذلك لما بلغ السيل الزبى، وتسرّبت كثير من الاِسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات إلى أوساط المسلمين. وقف المسلمون وفي طليعتهم عمر بن عبد العزيز على الخسارة الفادحة التي منوا بها من جرّاء ذلك، فكتب إلى أبي بكر بن حزم بضبط الحديث وتدوينه من رأس، قائلاً: انظر ما كان من حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلاّ حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإنّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً.(۲۵)

والذي يوَيد كون الحديث موضوعاً على لسان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رواه ابن داود، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: كنت أكتب كلّشيءٍ أسمعه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كلّشيء تسمعه ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّحقّ.(۲۶)

۸. البداء المحال في الوحي

أخرج البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد الساعدي، انّه قال: رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا انّ زيد بن ثابت أخبره انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أملى عليه:«لا يستوي القاعدون من الموَمنين والمجاهدون في سبيل اللّه».

قال: فجاءه ابن أُمّمكتوم وهو يمليها عليّ، فقال: يا رسول اللّه لو أستطيعُ الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى، فأنزل اللّه تبارك وتعالى على رسوله «صلى الله عليه وآله وسلم» وفخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتّى خفت ان ترضّ فخذي ثم سُرّيَ عنه، فأنزل اللّه عزّوجلّ ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَر) (النساء/۹۵).(۲۷)

أقول: إنّ فصل الخاص عن العام، والمقيد عن المطلق أمر جائز في التشريع الاِسلامي، لاَنّالسنة الاِلهية جرت على بيان الاَحكام الشرعية بالتدريج، وهذا مما لا مشاحة فيه . إنّما الكلام في الآية المباركة التي ليست بصدد بيان الحكم الشرعي حتى يتماشى فيها الضابطة المذكورة، وإنّما هي بصدد بيان حقيقة وهي عدم استواء القاعد و المجاهد، فإذاً الموضوع امّا هو مطلق القاعد أو القاعد غير أُولي الضرر.

فلو كان الموضوع ـ في الواقع ـ هو مطلق القاعد، فلماذا أُضيف إليه قيد (غير أُولي الضرر) في المرّة الثانية، ولو كان الموضوع منذ أوّل الاَمر هو المقيد (أي لا يستوي القاعدون غير أُولي الضرر) فلماذا فصل عنه القيد في المرّة الاَُولى وضمّ إليه ثانياً ؟ ومعنى ظاهر الرواية حدوث البداء على اللّه سبحانه، وظهور ما خفي عليه وهو أمر محال، فلم يعلم وجه هذا الفصل إلاّ أن تكون الغاية تكريم ابن أُمّ مكتوم وهذا أمر بعيد، فالحكم بوضع الرواية أحسن من هذا التوجيه.

وقد زعم أبو جعفر الطحاوي انّ الاِشكال يكمن في التسوية بين القاعدين لعذر وبغير عذر.

فأجاب انّه سبحانه لم يقصد من القاعدين في الآية القاعدين بالزمانة مع النية انّهم لو أطاقوا الجهاد لجاهدوا، ولكن ذهب ذلك عن ابن أُمّ مكتوم حتى قال ما قال(۲۸)

أقول: خفي عليه موضع الاِشكال، فانّ محله هو انّه سبحانه إمّا أراد من القاعدين عمومهم، أو خصوص غير القاعدين بالزمانة، فعلى الاَوّل يلزم البداء بإنزال القيد، وعلى الثاني يلزم تأخير القيد المتصل عن الآية وهو كما ترى.

۹. الملائكة باسطوا أجنحتهم على الشام

أخرج أحمد في مسنده، عن عبد الرحمان بن شماسة، عن زيد بن ثابت، قال:

بينا نحن عند رسول اللّه نوَلّف القرآن من الرقاع، إذ قال: طوبى للشام، قيل: ولِـمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لاَنّ ملائكة الرحمن باسطوا أجنحتها عليه.(۲۹)

إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضاد، فهو لا يتكلم اقتضاباً إلاّ أن يكون في المقام أدنى مناسبة، فلو افترضنا انّ زيداً كان يوَلف القرآن من الرقاع، ولم يكن يتكلّم مع النبيفبأيِّ مناسبة ألقى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلامه وأظهر فضائل الشام؟ وأغلب الظن انّ الحديث وضع في أوائل العهد الاَموي لتثبيت أركان الجهاز الحاكم.

۱۰. ضرورة اتخاذ الخليفة من المهاجرين

أخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: لما توفي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام خطباء الاَنصار فجعل منهم من يقول: يا معشر المهاجرين إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منّا، فنرى أن يلي هذا الاَمر رجلان، أحدهما منكم، والآخر منّا، قال: فتتابعت خطباء الاَنصار على ذلك، قال: فقام زيد بن ثابت، فقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المهاجرين، وإنّما الاِمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنّا أنصار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقام أبو بكر، فقال: جزاكم اللّه خيراً من حيٍّ يا معشر الاَنصار وثبّت قائلكم، ثمّقال: واللّه لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم.(۳۰)

إنّ الخلافة كالرسالة فرع وجود موَهلات و صلاحيات توَهل الاِنسان لاَن يشغل منصَّة الخلافة ويقوم بنفس الوظائف المخوّلة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى النبوّة، وعلى ضوء ذلك فليست العناوين الطارئة كعنوان الاَنصار أو المهاجرين من الموَهلات للقيام بأعباء الخلافة، ولذلك يقول سبحانه: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُرِسالَتَهُ ) (الاَنعام/۱۲۴). فما صرح به زيد من أنّ الرسول كان من المهاجرين فليكن الاِمام منهم،من الوهن بمكان لعدم الدليل على الملازمة.

وتشهد على بطلانه هذه الوثيقة التاريخية:

لما عرّف الرسول نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة المكرمة في موسم الحج ودعاهم إلى الاِسلام، قال له كبيرهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الاَمر من بعدك؟

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : الاَمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء.(۳۱)

فعلى ذلك فمنطق المهاجرين والاَنصار في مسألة الخلافة منطق غير سديد، إذ ليست الخلافة رهن عنوان المهاجرين والاَنصار، وإنّما هي رهن ملاكات وصلاحيات لا حصر لها، قال سبحانه: (إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوت مَلِكاً قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُوَْتَ سَعَةً مِنَ المالِقالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُوَْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/۲۴۷) فقد انطلق بنو إسرائيل من مبدئية الثراء وكثرة المال، واللّه سبحانه ردّ عليهم وجعل المعيار هو كثرة العلم والقدرة الجسمانية، وأين هذا من منطق الحاضرين في سقيفة بني ساعدة؟!

۱. أُسد الغابة:۲/۲۲۱ـ ۲۲۳.

۲. صحيح البخاري: ۶/۱۸۳، باب جمع القرآن.

۳. صحيح البخاري: ۶/۱۸۷، باب القراء من أصحاب النبي.

۴. صحيح البخاري: ۶/۱۸۷.

۵. المصدر السابق: ۶/۱۸۶.

۶. طبقات ابن سعد: ۲/۳۵۹؛ ولاحظ سير اعلام النبلاء:۲/۴۳۱ برقم ۸۵، وقد ناقش المعلّق في اسناد بعض تلك الروايات.

۷. سير اعلام النبلاء: ۲/۴۳۲.

۸. بحار الاَنوار: ۴۰/۱۵۹ نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب، لاحظ المناقب: ۱/۲۵۹.

۹. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ۲۰/۲۵ـ ۲۷.

۱۰. الطوسي: تهذيب الاَحكام: ۹/۲۹۱ـ ۲۹۲.

۱۱. كتاب المعرفة والتاريخ: ۱/۵۳۷.

۱۲. الغدير: ۱/۳۷.

۱۳. صحيح مسلم: ۲/۱۸۸. باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

۱۴. البدعة، ص ۱۵۴ـ ۱۹۸.

۱۵. سنن ابن ماجة:۱/۸۴ برقم ۲۳۰؛ مسند أحمد:۵/۱۸۲.

۱۶. مسند أحمد: ۵/۱۸۱ ـ ۱۸۲.

۱۷. سنن ابن ماجة:۱/۳۰ برقم ۷۷.

۱۸. مسند أحمد: ۵/۱۸۴.

۱۹. مسند أحمد: ۵/۱۸۸.

۲۰. مسند أحمد: ۵/۱۸۳؛ وانظر سنن الدارمي: ۲/۱۷۹، باب في حد المحصنين بالزنا.

۲۱. سنن أبي داود: ۲/۵۸ برقم ۱۴۰۴.

۲۲. الدر المنثور: ۷/۶۶۸.

۲۳. صحيح البخاري: ۴/۱۹، باب قول اللّه تعالى (من الموَمنين) ؛ سنن الترمذي: ۵/۲۸۴ـ ۲۸۵ برقم ۳۱۰۴.

۲۴. سنن أبي داود: ۳/۳۱۸ـ ۳۱۹ برقم ۳۶۴۷.ورواه أحمد في مسنده:۳/۱۲ عن أبي هريرة.

۲۵. صحيح البخاري: ۱/۲۷، باب الحرص على الحديث.

۲۶. سنن أبي داود: ۳/۳۱۸ برقم ۳۶۴۶.

۲۷. صحيح البخاري: ۴/۲۴ و۲۵ باب قول اللّه تعالى: (لا يَسْتَوي القاعِدُونَ مِنَ الموَمِنينَ) .

۲۸. مشكل الآثار: ۲/۱۵۴.

۲۹. مسند أحمد: ۵/۱۸۴.

۳۰. مسند أحمد:۵/۱۸۵.

۳۱. ابن هشام السيرة النبوية:۲/۴۲۴.