أزمة المُحدِثين في الأسانيد بين الإفراط في التصنع و التفریط بالمصطلح - الصفحه 5

أزمة المُحْدِثين في الأسانيد بين الإفراط في التصنّع والتفريط بالمصطلح

لم يختلف ذوو الكلمة من المسلمين ، في أهميّة الحديث الشريف ولا في حجّيته، لما يحسّ بالبداهة من مصدريّته للدين ، وأثره في تكوين المعرفة الإسلاميّة .
إلّا أنّه لا يغيب ما مُني به في فترات من تفريطٍ به ، أو إفراطٍ فيه ، لكنّ الحقيقة تلك تجاوزت كلّ العقبات والتحدّيات ، وجرت المياه في مجاريها الطبيعيّة ، ولو بعد حين.
ففي الصدر الأوّل ـ من تاريخ المسلمين ـ رفعت مقولة «حسبنا كتاب الله» كشعار في وجه الحديث الشريف ، بشكل صريح ومباشر ، وفي محضر صاحب الرسالة ، ومصدر الحديث الأوّل ، النبي الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم ، فكانت بداية «القرآنيين» الذين لا نزال نسمع لهم همسات في أطراف الأرض .
وكان الأثر السلبيّ لتلك المواجهة الجريئة : أن منع الحديث الشريف من النقل والإذاعة ، كما منع بشدّة عن تدوينه وكتابته وضبطه ، ممّا فسح المجال لتشويه
صورته تارةً والتشكيك فيه أخرى ، وقد فصّل الحديث عن ذلك في كتب خاصّة بتاريخ الحديث ۱ .
وبما أنّه كان للحديث ـ على أثر الدعم الكامل له ، من نصوص القرآن الكريم ، وبإشراف مباشر من النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وبجهود الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، وفي مقدّمتهم أهل بيت النبيّ عليهم السّلام ـ حصانة قويّة ضدّ كلّ أنواع المواجهة المضادّة والتصدّي المعلن وغير المعلن .
فقد تكاثفت جهود المخلصين لهذا الدين ، بكلّ الأشكال وشتّى التصرّفات قولاً ، وعملاً ، من أجل إحباط تلك المواجهة ، فقاموا بتدوين الحديث وضبطه ونشره ، ولو وضعت الصمصامة على رقابهم ۲ .
وقد أثمرت تلك الجهود المخلصة ـ ولو مع تأخير قرنٍ كاملٍ من الزمان ـ بالعودة الحميدة إلى الحديث الشريف .
وهذا التأخير سبّب حدوث فجوات وثغور في هذا الكنز ، مثل الحاجة إلى الوسائط المبلّغة ، الموصلة إلى المصدر الأوّل لمتن الحديث ، وقد سمّيت بالأسانيد .
ثمّ الإثارات التي كان «القرآنيون» يُثيرونها ، والدسّ والتزوير الذي يصنعونه ، بغرض التشكيك في الحديث ، وسلب الثقة من نصوصه ، وإخراج الموروث منه عن حيز الاعتماد والاستفادة .
وفي مقابل هذا ـ أيضاً ـ وقف الأيقاظ من علماء المسلمين بقوّة ، فأبدعوا في تاسيس «علم الحديث» فنظّموه ، ورتّبوه ، وفنّنوه ، بشكلٍ لم يسبق له نظير في أيّة حضارةٍ إنسانيّة سابقةٍ ، سواء في الأديان الإلهيّة ، أم غيرها ، بما يُعتبر مكرمةً إسلاميّة يعتزّ بها المسلمون .
وممّا قاموا به : وضع قوانين مستلهمة من الأعراف الطيّبة العامّة ، معتمدة على موازين المنطق ، والاستقراء ، فقرّروا لنقل الحديث طرقاً ، وحدّدوا لها شروطاً ، واصطلحوا مصطلحاتٍ خاصّة ، كي لا تتزيّف الأمور ، ولا تختلّ الموازين ، ولا يُستغلّ الحديث من قبل المفرِطين ، أو المفرّطين .
وكلّما تكاثفت الأيّام والسنوات وتتابعت القرون ، واستقرّت قواعد العلوم والفنون ، تحدّدت موازين «علم الحديث» بشكل أوضح ، وتبلورت موازينه وأعرافه بصيغها وصورها ، كما توسّعت شعبها ، حتّى كانت «علوم الحديث» من أهمّ أقسام الدراسات الإسلامية .
وممّا مُني به الحديث الشريف ، فكرة الإفراط فيه ، على حساب غيره من مصادر المعرفة الإسلامية ، كالقران الكريم ، والعقل السليم ، والسيرة والإجماع ، وغيرها ممّا هو مقرّر في محلّه .
وقد تبنّت جماعات فكرة الإفراط في اللجوء إلى الحديث والأخبار ، فدعوا أنفسهم «أهل الحديث» أو «الأخباريّة» ۳ .
وتبتني الفكرة على: الالتزام بما جاء في الأحاديث، بشكلٍ مطلق، ورفع مكانته على سائر الأدلّة، بل على حساب سائر الأدلّة، بدعاوى لاتقاوم البحث والمعارضة.
والمهمّ أنّ هؤلاء استهانوا بأمر الأدلّة الأخرى ، واعتبروها إمّا غير مفهومة ، أو مفتعلة ومبتدعة ، وغير حجّة شرعيّة ، كما اعتبروا صناعة أصول الفقه ، من البدع المنافية للنصوص ؛ فابتعدوا عن كلّ ملازماتها ، كما ابتدعوا عن كلّ مصطلح ، حتّى لو كان مستلهماً من الأعراف الطيّبة ، ما لم يرد به «نصّ في حديثٍ» .
بينما لم تكن تلك الصناعة ، أو تلك المصطلحات ، إلّا مأخوذة من الأعراف ،
التي قرّرها الشارع ، وأمر بالأخذ بأحسنها ، بل هي مستخرجة من قواعد شرعيّة مقرّرة ، ومستلهمة من تصرّفات الشارع الكريم نفسه ، فليست إلّا جرياً على دَيْدَنِه وعمله ، فهي بالتالي ترجع إلى «النصوص» وتعتمد عليها ، ولو بالتأمّل والتدبّر الذي لابدّ من استخدامه في تمشية الحياة ، وقد دعا إلى ذلك الشارع الكريم ، في مواضع عديدة .
وكان موقف الأخباريين من أصول الفقه ، متشدّداً إفراطيّاً بحيث انتج ردّة فعلٍ عنيفة لدى معارضيهم ، أدّت بهم إلى اتّخاذ موقف تفريطيّ من الحديث الشريف.
لكن الواقع الحقّ كان يبرز بين هؤلاء وأولئك ، لمن يتعقّل أمر الأصول وقواعده ، فيجد أنّها مستلهمة من نصوص الأحاديث ، ولا تتعدّاها ، ومرويّة عن الأئمّة عليهم السّلام وقد عمل بها أصحابهم عليه السّلام في عصورهم ، وبمرأى منهم ومسمع ، من دون نكير ۴ .
وكان فقهاء الأخباريّة يعترفون بمثل هذا ، ويعتقدونه ، ممّا دعا بعض المفرّطين أن يقول له : «أنت أصوليّ من حيث لا تشعر»!
لكن هذه الكلمة لا تناسب العلماء ، وغير لائقة ، لأنّ الأصوليّ إذا اعترف بأن قواعده مستلهمة من النصوص «فهو ـ إذن ـ أخباري من حيث لا يشعر» ، أيضاً .
ولقد خمدت فورة ذلك الإفراط ، وذلك التفريط ، وعلم الجميع بأنّ النزاع عاد «لفظيّاً» ، وأنّ المعتمد لكلا الفريقين ، هي نصوص ، وأصبحت تلك العقليّة منزويةً وضئيلة وفكرتُها باهتةً .
وعادت المياه إلى مجاريها ، وتقدّمت عملية الاستناد إلى الحديث ، مع
الاستفادة من القواعد ، تسير بخطوات رائعة ، وبمناهج محكمة .
ونرى في تاريخ الاستنباط : كلّما كان الفقيه ، أعمق فكراً وأكثر تحقيقاً ، وأبرز تدقيقاً ، فإنّه ألجأ إلى النصوص ، وأكثر اعتماداً عليها ، في الاستنباط الفقهي .
فنرى في عمالقة الفكر الأصولي من يستند إلى الأحاديث بشكل أساسي ، متجاوزاً كلّ الإشكاليّات التي تعرض ، حتّى من قبل كبار الأخباريين في عهدهم الذهبيّ ، من العنايات الرجاليّة والإشكاليات السنديّة .
ونرى في تاريخ علم الرجال : أنّ من كبار الأخباريين مَنْ ألّفوا في علم الرجال ، وبحثوا عن أمر الأسانيد وتصحيح الطرق وإقامة القرائن الداخليّة والخارجيّة على صحّة الأحاديث ۵ بينما نجد كبار الأصوليين المعاصرين لهم لا يتعدّون الحديث الشريف في الاستدلال الفقهي ، ويتغافلون عن تلك البحوث السنديّة .
ومن الواضح أنّ ذلك ليس منهم عن قصور أو تقصير ـ حاشاهم ـ بل إنّما هو من أجل الوثوق التّام بما أودع في مصادر الحديث من النصوص التي توارثها العلماء بكلّ دقّة ، وبكلّ أمانةٍ ، وحفظوها لنا ، باعتبار أنّها «الدين» الذي يجب أداؤه ، و«الرسالة» التي يجب تبليغها .
ولم يكن حَمَلة الإسلام : من عقيدته وفقهه وأصوله ، وحديثه ، ينظرون إلى «الأحاديث» الموروثة، على أساس أنّها «أخبارأحاد»، حتّى يبحثوا عن أسانيدها، فإنّهم كانوا يلتزمون ـ بالإجماع ـ : «أن خبر الواحد لا يفيد علماً ولا عملاً» ۶ .
بل ، كانوا يعتقدون بأنّ المودع منه في الجوامع العظام ، إنّما هو متواتر ، وفي كثير
من أحكام الشرع ۷ .
ولو دقّقنا في مزاولات الفقهاء من الأصوليين ، نجد رفضهم بقوّة لفكرة انسداد باب العلم ورفضهم لمحاولات اللجوء إلى الظنون ، معتمدين على أنّ المخزون الحديثيّ الموجود ، يغني عن الظنّ في الأكثر من أبواب الفقه .
كما أنّا نجد عمالقةً من الفقهاء الأصوليّن ، ينتهجون مناهج رجاليّة ، ويتعاملون مع الأسانيد ، بشكلٍ يقرب من الأخباريين ، إن لم يَطْغَ عليهم أحياناً ۸ .

1.لاحظ كتاب «تدوين السنة الشريفة» للسيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي فإنّه أحدث كتاب جامع لشتات هذا البحث . وقد طبع في قم عام ۱۴۱۳ و۱۴۱۷هـ .

2.ذكر الصحابي الجليل أبوذر الغفاري هذه الكلمة ، لاحظ صحيح البخاري (۱/۲۷) .

3.لاحظ للتمييز بين هذه الأسماء ، مقدّمة (الحكايات) للشيخ المفيد . المنشور في مصنّفات الشيخ المفيد رقم (۹) .

4.لاحظ رسالة الاجتهاد والأخبار ، للوحيد البهبهاني ، والفوائد الحائرية له ، ولاحظ كتاب : الاجتهاد والأخبار ، للسيّد عبدالرسول الجهرمي شريعت مدار . المطبوع في المقالات والرسالات برقم (۲۳) .

5.مثل الميرزا محمّد الأخباري صاحب الكتب الثلاث ، لاحظ : مصفى المقال ، لآقا بزرك الطهراني ، (عمود : ۴۳۰) .

6.لاحظ مقال : الثقلان ، مجلّة علوم الحديث (العدد الأوّل) ، السنة الأولى ، ص۴۱ .

7.لاحظ : مختصر رسالة في أحوال الأخبار ، للقطب الراوندي ، علوم الحديث (۱/۳۲۱) .

8.لاحظ كتابه الفوائد الحائرية ، وكذلك الفوائد الرجاليّة والتعليقة على منهج المقال ، تجد هذا الأمر بوضوح .

الصفحه من 14