87
العقد النّضيد و الدّر الفريد

الحديث الثاني و السبعون

۰.وروى أنَّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أرسل إلى معاوية رسله :. الطرمّاح وجرير بن عبد اللّه البجلي وغيرهما قبل مسيره إلى صفّين ، وكتب إليه مرّة بعد أُخرى يحتجّ عليه ببيعة أهل الحرمين له ، وسوابقه في الإسلام ؛ لئلاّ يكون بين أهل العراق وأهل الشام محاربة ، ومعاوية يعتلّ بدم عثمان ويستغوي بذلك جُهّال أهل الشام وأجلاف العرب ، ويستميل طلبة الدنيا بالأموال والولايات ، وكان يشاور في أثناء ذلك ثقاته وأهل مودّته وعشيرته في قتال عليٍّ عليه السلام .
فقال له أخوه عتبة : هذا أمر عظيم ، لا يتمّ إلاّ بعمرو بن العاص؛ فإنّه قريع زمانه في الدهاء والمكر ، يَخْدَع ولا يُخْدَع ، وقلوب أهل الشام مائلة إليه ، فقال له معاوية : صدقت [ واللّه ] ، ولكنّه يحبُّ عليّا فأخاف أن لا يجيبني ، فقال : اخدعه بالأموال ومصر .
فكتب إليه معاوية :
من معاوية بن أبي سفيان خليفة عثمان بن عفّان ـ إمام المسلمين وخليفة رسول ربِّ العالمين ، ذي النورين ، ختن المصطفى على ابنتيه ، وصاحب جيش العسرة ، وبئر رومة ، المعدوم الناصر ، الكثير الخاذل ، المحصور في منزله ، المقتول عطشا وظلما في محرابه ، المعذَّب بأسياف الفسقة ـ إلى عمرو بن العاص ، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وثقته، وأمير عسكره بذات السلاسل ، المعطّم رأيه ، المفخّم تدبيره .
أمّا بعد ، فلن يخفى عليك احتراق قلوب المؤمنين وما أُصيبوا به من الفجيعة بقتل عثمان، وما ارتكب به جاره حسدا وبغيا ـ بامتناعه عن نصرته، وخذلانه إيّاه، وإشلائه الغارة عليه حتّى قتلوه في محرابه ـ فيا لها من مصيبة عمّت جميع المسلمين ، وفرضت عليهم طلب دمه ممّن قتله ، وأنا أدعوك إلى الحظّ الأجزلِ من الثواب ، والنصيب الأَوفَرِ من حسن المآب بقتالِ من آوى قتلة عثمان ، رضي اللّه عنه وأرضاه ، وأسكنه جنّة المأوى .
فكتب إليه عمرو بن العاص :
من عمرو بن العاص ، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى معاوية بن أبي سفيان . أمّا بعد ، فقد وصل كتابك فقرأته وفهمته ، فأمّا ما دعوتني إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي، والتهوّر في الضلالة معك ، وإعانتي إيّاك على الباطل ، واختراط السيف على وجه عليّ بن أبي طالب وهو أخو رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم، ووصيّه، ووارثه، وقاضي دينه ، ومنجز وعده ، وزوج ابنته سيّدة نساء أهل الجنّة ، وأبو السبطين : الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، فلن يكن .
وأمّا ما قلت : إنّك خليفة عثمان فقد صدقت ، ولكن تبيّن اليوم عزلك عن خلافته ، وقد بويع لغيرك ، فزالت خلافتك .
وأمّا ما عظّمتني به ونسبتني إليه من صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأنّي صاحب جيشه ، فلا أغترُّ بالتزكية ، ولا أَمِيلُ بها عن الملّة .
وأمّا ما نسبت [ أبا الحسن ] أخا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ووصيّه إلى الحسد والبغي على عثمان ، وسمّيت الصحابة فسقة ، وزعمت أ نّه أشلاهم على قتله ، فهذا كذبٌ وغواية .
وَيْحَك يا معاوية ! أما علمت أنّ أبا الحسن بَذَلَ نفسه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، و بات على فراشه ، و هو صاحب السبق إلى الإسلام و الهجرة ؟! و قد قال فيه رسول اللّه :
«هو منِّي وأنا منه ، وهو مِنّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أ نّه لا نبيّ بعدي».
وقد قال يوم غدير خم : «ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».
وهو الذي قال فيه عليه السلام يوم خيبر : «لأُعطينَّ الراية غدا رجلاً يحبّ اللّه َ ورسوله ويُحِبُّه اللّه ُ ورسوله».
وهُوَ الذي قال فيه يوم الطير : «اللهمّ آتيني بأحبِّ خلقك إليك» فلمّا دخل عليه قال : «إليَّ ، إليَّ».
وقال فيه يوم النضير : «عليٌّ إمام البررة، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله».
وقد قال فيه : «عليٌّ وليّكم بعدي».
وأكَّد القول عَليَّ وعليك وعلى جميع المسلمين وقال :
«إنّي مخلف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي».
وقد قال : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» .
وقد علمت يا معاوية ، ما أنزل اللّه تعالى في كتابه من الآيات المتلوّات في فضائله التي لا يشركه فيها أحد ، كقوله : «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُو مُسْتَطِيرًا»۱ ، و «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُو وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ»۲ ، و «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِى وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ»۳ ، و «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ»۴ ، وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله وسلم : «قُل لاَّ أَسْـ?لُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»۵ .
وقد قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «أما ترضى أَن يكون سلمك سلمي وحربك حربي وتكون أخي ووليّي في الدنيا والآخرة ؟! يا أبا الحسن ، من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أَبغضك فقد أَبغضني ، ومن أَحبّك أدخله اللّه الجنّة ، ومن أبغضك أدخله اللّه النار» .
وكتابك ـ يا معاوية ـ الذي هذا جوابه ليس ممّا ينخدع من له عقل أو دين . والسلام .
ثمّ كتب إليه معاوية يعرض عليه الأموال والولايات ، وكتَبَ في آخر كتابه :
جهلتَ ولم تعلَمْ محلَّكَ عندنافأرسلتَ شيئا من خطابٍ وما تدري
فثقْ بالذي عندي لك اليوم آنقامن العزّ والإكرام والجاه والقدر
فأكتب عهدا ترتضيه موكّداوأُشفِعه بالبذل منّي وبالبرّ
فكتب إليه عمرو بن العاص :
أبى الْقَلْبُ مِنِّي أن أُخادعَ بالمكر بقتل ابن عفّان أُجرّ إلى الكفرِ
وإنّي لَعمرو ذو دهاءٍ وفِطنةٍ ولستُ أبيعُ الدينَ بالربحِ والدفرِ
فلو كنتُ ذا عقلٍ ورأيٍ وحيلةٍ لقلتُ لهذا الشيخ إن خاضَ في الأمرِ
تحيّةَ منشورٍ جليلٍ مكرّمٍ بخطٍّ صحيح ذي بيانٍ على مصرِ
أليس صغيرا ملكُ مصر ببيعةٍهي العارُ في الدنيا على العقبِ من عمرو
فإن كنت ذا ميلٍ شديدٍ إلى العُلى وإمرةِ أهلِ الدين مثل أبي بكرِ
فاشركْ أخا رأيٍ وعزمٍ وحيلةٍمعاويَ في أمرٍ جليلٍ من الذكرِ
فإنَّ دواءَ الليث صعبٌ على الورى وإن غابَ عمرو زيد شرٌّ إلى شرٍّ
فكتب معاوية منشور مصر ، ونفذه إليه .
وبقي عمرو متفكّرا لا يدري ما يصنع حتّى ذهب عنه النوم وقال :

تطاول ليلي بالهمومِ الطوارقِفصافحتُ من دهري وجوه البوائقِ
أ أخدعه والخدع فيه سجيّةأم أعطِيه من نفسي نصيحةَ وامقِ
أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحةٌلشيخ يخاف الموتَ في كلِّ شارق
فلمّا أصبح دعا مولاه وردان ـ وكان عاقلاً ـ فشاوره في ذلك .
فقال وردان : إنّ مع عليٍّ آخرةً ولا دنيا معه ، [ وهي التي تبقى لك وتبقى لها ] ، و مع معاوية دنيا ولا آخرة معه ، وهي التي لا تبقى على أحد ، فانظر لنفسك أيّهما تختار؟
فتبسّم عمرو وقال :
يا قاتَلَ الله وردانا وفطنتَهُلقد أصابَ الذي في القلبِ وردانُ
لمّا تعرّضت الدنيا عرضت لها بحرص نفسي وفي الأطباع إدهانُ
نفسي تعفّ وأُخرى الحرص يغلبهاوالمرءُ يأكلُ تبنا وهو غرثانُ
أمّا عليٌّ فدين ليس تشرِكُهدنيا وذاك له دنيا وسلطانُ
فاخترت من طمعي دنيا على بصري وما معي بالذي أختارُ برهانُ
إنّي لأعرف ما فيها وأُبصره وفيَّ أَيضا لما أهواه ألوانُ
لكنّ نفسي تُحِبُّ العيشَ في شرفٍوليس يرضى بذلّ النفسِ إنسانُ
ثمّ إنّ عمرا رحل إلى معاوية، فمنعه ابنه عبد اللّه ووردان فلم يسمع ، فلمّا بلغ مفرق الطريقين : طريق العراق وطريق الشام ، قال له وردان : طريق العراق طريق الآخرة ، وطريق الشام طريق الدنيا ، فأيّهما تسلك؟ قال : طريق الشام ۶ .

1.الإنسان (۷۶) : ۷.

2.المائدة (۵) : ۵۵.

3.هود (۱۱) : ۱۷.

4.الأحزاب (۳۳) : ۲۳.

5.الشورى (۴۲) : ۲۳.

6.المناقب للخوارزمي: ۱۹۸ـ۲۰۲، فيقتاله أهل الشام؛ وروى نحوه نصر بن مزاحم في وقعة صفّين:۳۴ وما بعدها.


العقد النّضيد و الدّر الفريد
86
  • نام منبع :
    العقد النّضيد و الدّر الفريد
    المساعدون :
    اوسط الناطقي، علي؛ شهرستاني، سيد هاشم؛ فرادي، لطيف
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1423 ق / 1381 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 36995
الصفحه من 243
طباعه  ارسل الي