289
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

معطيات اللغة العربية في المناهج العقائدية

اللغة العربية هي لسان القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، والفصاحة والبلاغة لها القسط الأكبر في منطوق القرآن والسنّة ، وقد كان الشريف المرتضى قدس سره واسع الباع باللغة العربية ، ملمّا بأقوال كثير من علماء العربية أمثال أبو عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة وغيرهما .
وهذه المقدرة اللغوية يندر أن نراها بين المحدثين السابقين خصوصا ما طرحه في معنى حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه النارإلاّ تَحِلَّةَ القسم» .
الجواب، قيل له: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلام ، فإنّه قال: يعني بتحلَّة القسم قوله تعالى: «وَ إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا»۱ ، فكأنّه قال عليه السلام : لا يرد النار إلاّ بقدر ما يبرّر اللّه قسمه.
وأمّا ابن قتيبة ، فإنّه قال في تأويل أبي عبيد: هذا مذهب حسن من الاستخراج ، إن كان هذا قسما.
قال: وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم ، وهو أنّ العرب إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبهوه بتحلّه القسم ؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه : إن شاء اللّه ، فيقولون: ما يقيم فلان عندنا إلاّ تحلّة القسم، وما ينام العليل إلاّ كتحليل الأليّة، وهو كثير مشهور .
قال ابن أحمر ، وذكر الريح :
إذا عصفت رسما فليس بدائمبه وتد إلاّ تحلّة مقسم
يقول: لايثبت الوتد إلاّ قليلاً كتحلّة القسم ؛ لأنّ هبوب الريح يقلعه.
وقال آخر يذكر ثورا:
يخفى التراب بأظلاف ثمانيةفي أربع مسّهن الأرض تحليل
يقول: هو سريع خفيف ، فقوائمه لاتثبت في الأرض إلاّ كتحليل اليمين.
وقال ذو الرّمة:
طوى طيه فوق الكرى جفن عينهعلى رهبات من جنان المحازر
قليلاً كتحليل الألي ثمّ قلصتبه شيمة روعاء تقليص طائر
والألي: جمع ألوة، وهي اليمين.
قال: ومعنى الخبر على هذا التأويل : أنّ النار لا تمسّه إلاّ قليلاً كتحليل اليمين ، ثمّ ينجّيه اللّه منها.
وقال أبو بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ: الصواب قول أبي عبيد، لحجج ثلاث :
منها : أنّ جماعة من كبار أهل العلم فسّروه على تفسير أبي عبيد .
ومنها : أنّه ادّعى أنّ النار تمسّ الّذي وقعت منزلته عند اللّه جليلة، لكن مسّا قليلاً ، والقليل لا يقع به الألم العظيم؛ وليس صفة الأبرار في الآخرة صفة من تمسّه النار لا قليلاً ولا كثيرا .
ومنها : أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار، وإنّما حكم عليه بالورود، والورود لا يوجب ألاّ يكون من الأبرار ؛ لأنّ «إلاّ» معناه الاستثناء المنقطع، فكأنّه قال: فتمسّه النار لكن تحلّة اليمين، أي لكن ورود النار لابدَّ منه، فجرى مجرى قول العرب: سار الناس إلاّ الأثقال، وارتحل العسكر إلاّ أهل الخيام،
وأنشد الفرّاء:
وسمحة المشي شملالٍ قطعت بهاأرضا يحار بها الهادون ديموما
مهامها وحزونا لا أنيس بهاإلاّ الصوائح والأصداء والبُوما
وأنشد الفرّاء أيضا:
ليس عليك عطش ولا جوعإلاّ الرقادَ والرقاد ممنوع
فمعنى الحديث: لايموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسّه النار البتة، لكن تحلّة اليمين لابدَّ منها، وتحلّة اليمين الورود، والورود لايقع فيه مسّ.
وقال أبو بكر: وقد سنح لي فيه قول آخر: وهو أن تكون «إلاّ» زائدة دخلت للتوكيد، و«تحلّة» اليمين منصوب على الوقت والزمان، ومعنى الخبر: فتمسّه النار، وقت تحلّة القسم، و«إلاّ» زائدة.
قال الفرزدق شاهدا لهذا:
هم القوم إلاّ حيث سلوا سيوفهموضحوا بلحم من محل ومحرم
معناه: هم القوم حيث سلوا سيوفهم، و«إلاّ» مؤكّدة.
وقال الأخطل:
يقطّعنَ إلاّ من فروع يردنهابمدحة محمود نَثاهُ ونائله
معناه : يقطعون من فروع يردنها، والفروع: الواسعة من الأرض .
يقول الشريف المرتضى قدس سره : والوجوه المذكورة في تأويل الخبر كالمتقاربة، إلاّ أنّ الوجه الّذي اختصّ به ابن الأنباري فيه أدنى تعسّف وبعد ، من حيث جعل «إلاّ» زائدة، وذلك كالمستضعف عند جماعة من أهل العربية.
وقد تبقى في الخبر مسألة التشاغل بالجواب عنها أولى ممّا تكلفه القوم، وهي متوجّهة على كلّ الوجوه الّتي ذكروها في تأويله.
وهو أن يقال: كيف يجوز أن يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الولد لاتمسّه النار ، إمّا جملة أو مقدار تحلّة القسم ، وهو النهاية في القلّة؟!
أو ليس ذلك يوجب أن يكون إغراء بالذنوب لمن هذه حاله ؟!
وإذا كان من يموت وله هذا العدد من الأولاد غير خارج عن التكليف، فكيف يصحّ أن يؤمن من العقاب!
والجواب عن ذلك : أنّا قد علمنا أوّلاً خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته ، والتخصيص له والتمييز، ولا مدحة في مجرد موت الأولاد؛ لأنّ ذلك لايرجع إلى فعله، فلابدَّ من أن يكون تقدير الكلام: إنّ النار لاتمسّ المسلم الّذي يموت له ثلاثة أولاد ، إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه، ورضاه بما جرى به القضاء عليه؛ لأنّه بذلك يستحقّ الثواب والمدح ، وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لابدَّ منه لم يكن في القول إغراء؛ لأنّ كيفية وقوع الصبر والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضل اللّه سبحانه بغفران ما لعلّه أن يستحقّه من العقاب في المستقبل ، وإذا لم يكن معلوما فلا وجه للإغراء.
وأكثر ما في هذا الكلام أن يكون القول مرغّبا في حسن الصبر، وحاثّا عليه رغبة في الثواب، ورجاء لغفران ما لعلّه أن يستحقّ في المستقبل من العقاب . وهذا واضح لمَن تأمله». ۲
وكذلك ينصف الشريف المرتضى قدس سره القول حول خبر: «نحن معاشر الأنبياء لانورث ما تركناه صدقة» حيث نقل عنه أنّه كان ينكر ما كان يذكره بعض الإمامية في منع الاحتجاج بهذا الخبر ، وأنّه إنّما قال: «ما تركناه صدقة» بنصب «ما» فلا يرتضي هذه الطريقة ؛ لأنّ من نقل هذه الكلمة إنّما نقلها موقوفة غير معربة.
ثمّ إنّ النصب ينافي هذا الخبر ، وواضعيه أنّهم لاينصبون هذه الكلمة ، ولم
يقصدوا إلى معنى النفي ؛ لظهور التناقض والتنافي بين أولها وآخرها. ۳
وكذلك نشهد العطاء الفكري من الشريف المرتضى قدس سره في البحث اللغوي في كلمة «مولى» الواقعة في صميم خبر الغدير ، فقد تمحّل لها الكثير ، وجعلوها إحدى المضعفات الدلالية في حاق الخبر مع وضوحها على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، حتّى أنّنا نرى الإيهامات والتشكيكات في كتب اللغة ، والخبط العشوائي الأمر الّذي يسأم منه أي مطالع لكتب اللغة .
ويقف الشريف المرتضى قدس سره أمام هكذا جرف لغوي متأثّر بالوضع السياسي ، ويصرّ على أن يبين وظيفة اللغة لابدَّ أن تكون أسمى من أن يتطرّق إليها انحراف أهواء بعض ، بل عليها أن تحفظ صحّة أصالتها ، يقول قدس سره: «وأمّا الدليل على أنّ لفظ «مولى» تغيّر في اللغة « أولى » فظاهر ؛ لأنّ من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنّهم يضعون هذه اللفظة مكان أولى ، كما أنّهم يستعملونها في ابن العم ، وما المنكر لاستعمالها في الأوّل إلاّ كالمنكر لاستعمالها في غيره من أقسامها، ومعلوم أنّهم لايمتنعون من أن يقولوا في كلّ من كان أولى بالشيء أنّه مولاه، فمتى شئت أن تفحم المطالب بهذه المطالبة فأعكسها ، عليه ثمّ طالبه بأن يدلّ على أنّ لفظة مولى تفيد في اللغة ابن العلم والجار أو غيرهما من الأقسام ؛ فإنّه لا يتمكّن إلاّ من إيراد بيت شعر أو مقاضاة إلى كتاب أو عرف لأهل اللغة، وكلّ ذلك موجود ممكن لمن ذهب إلى أنّها تفيد الأولى، على أنّا نتبرّع بإيراد جملة تدلّ على ما ذهبنا إليه ، فنقول : قد ذهب أبو عبيدة معمّر بن المثنى ومنزلته في اللغة منزلته، في كتابه في القرآن المعروف بالمجاز لما انتهى إلى قوله « مَأْوَلـكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَـلـكُمْ »۴ أولى بكم، وأنشد بيت لبيد عاضدا لتأويله:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّهمولى المخافة خلفها وأمامها
وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة، ولو غلط فيهما أو وهم لما جاز أن يمسك عن النكير عليه والردّ لتأويله غيره من أهل اللغة ممّن أصاب ما غلط فيه على عادتهم المعروفة في تتبع بعضهم لبعض، وردّ بعض على بعض ، فصار قول أبي عبيدة الّذي حكيناه مع أنّه لم يظهر من أحد من أهل اللغة ردّ له، كأنّه قول للجميع » . ۵
ويستعين بشواهد قرآنية قد أكّد المفسّرون على أنّ المراد بالمولى : من كان أملك بالميراث ، وأولى بحيازته ، وأحقّ به، ويجعلها في حيز اللغة ومعطياتها.
وينقل بيتا عن الأخطل والعجاج والمبرّد والفرّاء من كتابه معاني القرآن ، وأبي بكر محمّد بن القاسم الأنباري في كتابه في القرآن المعروف ب المشكل ، وأبي عمروغلام ثعلب ، وهؤلاء كلّهم من أعلام أهل اللغة والّذين يحطّ عندهم الرحال.
فالبحث اللغوي يلعب الدور الكبير في الأدلّة الاعتقادية وخصوصا العقائد الشيعية الّتي كثرت التشكيكات حولها ، وأغلبها قد قصد منها تمويه الحقائق ، والتعمية على الرأي العام ، وإخراج الأدلّة عن وضوحها وجلائها وروعتها ، حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سره يقول في آخر بحثه اللغوي في كلمة « المولى » : « ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهدا فيما قصدناه لأكثرنا ، وفيما أوردناه كفاية ومقنع». ۶
ثمّ يأتي بعدّة شواهد اُخرى تفيد أنّ لفظة « أولى » تفيد معنى الإمامة، وأنّه عليه السلام أولى بهم في تدبيرهم وأمرهم ونهيهم ، وليس أولى بأن يوالوه ويحبّوه... . ۷
ولكن القاضي عبدالجبّار المعتزلي يختزل الإشكال من ناحية اُخرى دقيقة وظريفة ، ينقلها عن أبي علي الجبائي وأبي هاشم الكعبي ، حيث ذهبا إلى أنّ المراد بالخبر : الإبانة عن فضل مقطوع به لا يتغير على الأوقات ؛ لأنّ وجوب الموالاة على القطع يدلّ على أنّ من وجب ذلك له باطنه كظاهره ، وإذا أوجب النبيّ صلى الله عليه و آله موالاته عليه السلام ، ولم يقيّده بوقت، فيجب أن يكون هذه حاله في سائر الأوقات، ولو لم يكن هذا هو المراد لوجب ألاّ يلزم سائر من غاب عن الموضع موالاته ، ولمّا وجب بعد ذلك الوقت عليهم موالاته، وبطلان ذلك يبيّن أنّه يقتضي الفضل الّذي لايتغير، وهذه منزلة عظيمة تفوق منزلة الإمامة، ويختصّ هو بها دون غيره ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله لم يبيّن في غيره هذه الحالة كما بيّن فيه ؛ ولأنّ الإمامة إنّما تعظم من حيث كانت وصلة إلى هذه الحالة، فلو لم تكن هذه من أشرف الأحوال لم تكن الإمامة شريفة، ودلّوا على أنّ المراد بمولى ما ذكروه بقوله تعالى: « أَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ » وأنّ المراد بذلك موالاة الدّين والنصرة فيه، وبقوله عز و جل : «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـلـهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَــلِحُ الْمُؤْمِنِينَ» ،۸ وأنّ المراد بذلك النصرة في الدّين ، وبيّنوا أنّ الموالاة في اللغة وإن كانت مشتركة فقد غلب عرف الشرع في استعمالها في هذاالوجه ». ۹
ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بعنف ، ويعتبر إشكال شيخيه ساقطا ، ومزيلاً للاعتراض به على حسب ما قرر وبيّن في البيانات السابقة ، ولا بأس بنقل الجواب عن هذا الاعتراض بطوله ؛ لفائدته المنهجية في فكر الشريف المرتضى يقول قدس سره : « يقال له: أمّا الدلالة الأولى الّتي رتّبناها وبيّنا كيفية الاستدلال بها فهي مسقطة لكلامك في هذا الفصل، ومزيلة للاعتراض به ؛ لأنّا قد بيّنا بما لا يتمكّن من دفعه أنّ المراد بلفظة : «مولى» يجب أن يكون موافقا للمقدّمة، وأنّه لا يسوغ حمله إلاّ على
معناها، ولو صحّ أن يراد بلفظة : «مولى» ما حكيته عن شيخيك، وكان ذلك من بعض أقسامها في اللغة، وليس بصحيح في الحقيقة، لكان حكم هذا المعنى حكم سائر المعاني الّتي تحتملها اللفظة في وجوب صرف المراد عنها، وحمله على ما تضمّنته المقدّمة على ما دلّلنا عليه، فلم يبق إلاّ أن يبيّن أنّه غير قادح أيضا في دلالة التقسيم.
والّذي يُبيّنه أنّك لا تخلو فيما ادّعيته من حمل الكلام على إيجاب الموالاة مع القطع على الباطن من أن تسنده إلى ما يقتضيه لفظة : «مولى» ووضعها في اللغة ، أو في عرف الشريعة ، أو إلى إطلاق الكلام من غير تقييد بوقت ، وتخصيص بحال ، أو إلى أنّ ما أوجبه عليه السلام يجب أن يكون مثل ما وجب له ، وإذا كان الواجب له هو الموالاة على هذا الوجه وجب مثله فيما أوجبه ؛ فإن أردت الأوّل فهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ من المعلوم أنّ لفظة : «مولى» لاتفيد ذلك في اللغة ولا في الشريعة، وأنّها إنّما تفيد في جملة ما يحتمله من الأقسام تولي النصرة والمحبّة من غير تعلّق بالقطع على الباطن، أو عموم سائر الأوقات، ولو كانت فائدتها ما ادّعيته لوجب ألاّ يكون في العالم أحد مواليا لغيره على الحقيقة إلاّ أن يكون ذلك الغير نبيّا أو إماما معصوما، وفي علمنا بإجراء هذه اللفظة حقيقة في المؤمن وكلّ من تولّى نصرة غيره ، وإن لم يكن قاطعا على باطنه دليل على أنّ فائدتها ما ذكرناه دون غيره.
وإن أردت الثاني فغير واجب أن يقطع على عموم القول بجميع الأوقات من حيث لم يقيّد بوقت ؛ لأنّه كما لم يكن في اللفظ تخصيص بوقت بعينه، فكذلك ليس فيه ذكر قد استوعب الأوقات، فادّعاء أحد الأمرين لفقد خلافه من اللفظ كادّعاء الآخر لمثل هذه العلّة، وقد بيّنا فيما مضى من الكتاب أنّ حمل الكلام على سائر الأوقات، والحمل على سائر محتملاته لفقد ما يقتضي التخصّيص غير صحيح ، وقد قال اللّه تعالى : «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ» ولم يخصص بعضا دون بعض من الأوقات، كما لا تخصيص في ظاهر خبر الغدير، ولم يقل أحد أنّه
تعالى أوجب بالآية موالاة المؤمنين على الظاهر دون الباطن، وفي الأحوال الّتي يظهر منهم فيها الإيمان، وما يقتضي الموالاة، فلاينكر أن يكون ما أوجب من الموالاة في خبر الغدير جاريا هذا المجرى .
وليس لأحد أن يقول: متى حملنا ما أوجب من الموالاة في الخبر على الظاهر دون الباطن لم نجعله مفيدا ؛ لأنّ وجوب هذه الموالاة لجميع المؤمنين معلوم قبل الخبر، فيجب أن يكون المراد ما ذكرناه من الموالاة المخصوصة، وذلك إنّ الّذي ذكره يوجب العدول عن حمله على الموالاة جملة ؛ لأنّه ليس هو بأن يقترح إضافته إلى الموالاة المطلقة الّتي يحتملها اللفظ وزيادة فيها ليجعل للخبر فائدة أولى ممّن أضاف إلى الموالاة ما نذهب إليه من إيجاب فرض الطاعة، وقال إنّه عليه السلام إنّما أراد من كان يواليني موالاة من يجب طاعته، والتدبّر بتدبيره فليوال عليّا على هذا الوجه، واعتلّ في تمحّله من الزيادة أيضا طلب الفائدة للخبر، وإذا حاول دعوى من ادّعى الموالاة المخصوصة غيرها وجب إطراحها، والرجوع إلى ما يقتضيه اللفظ، فإذا علمنا أنّ حمله على الموالاة المطلقة الحاصلة بين جميع المؤمنين يسقط الفائدة ، وجب أن يكون المراد ما ذهبنا إليه من كونه أولى بتدبيرهم وأمرهم ونهيهم.
وإن أردت القسم الثالث قلنا لك: لمَ زعمت أنّه عليه السلام إذا كان ممّن يجب له الموالاة على الظاهر والباطن وفي كلّ حال فلابدَّ أن يكون ما أوجبه في الخبر مماثلاً للواجب له ؟
أولستم تمنعونا ممّا هو آكد من استدلالكم ، هذا إذا أوجبنا حمل لفظة «مولى» على ما تقتضيه المقدّمة ، وأحلنا أن يعدل بها عن المعنى الأوّل وتدّعون إنّ الّذي أوجبناه غير واجب ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لو صرّح بخلافه حتّى يقول بعد المقدّمة: فمَن وجب عليه موالاتي فليوال عليّا، أو فمن كنت أولى به من نفسه فليفعل كذا وكذا، ممّا لا يرجع إلى المقدّمة لحسن وجاز فألا التزمتم مثل ذلك في تأويلكم ؟ ! لأنّا
نعلم أنّه عليه السلام لو صرّح بخلاف ما ذكرتموه ، حتّى يقول فمَن ألزمته موالاتي على الباطن والظاهر فليوال عليا في حياتي أو ما دام متمسكا بما هو عليه لجاز وحسن، وإذا كان جائزا حسنا بطل أن يكون الخبر متقضيا لمماثلة ما أوجبه من الموالاة فيما وجب له منها ». ۱۰
ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار المعتزلي عرج على آراء معتزلة أهل البصرة ، فذكر رأيا لشيخ البصريين في الاعتزال ، وهو أبو الهذيل المعروف بالعلاف ، وهو : إنّ المراد بالخبر هو المولاة في الدّين.
فقد ذكر أبو الهذيل عن بعض أهل العلم : إنّه حمل الخبر بأنّ قوما نقموا على علي عليه السلام بعض اُموره ، فجاء الخبر لذلك، أو نتيجة لمشاحة وقعت بين الإمام علي عليه السلام واُسامة بن زيد ، وهكذا من الأغاليط الّتي توخت أن تسلب الخبر من محتواه ، وتضعه نتيجة حاجة بعض الظروف الجزئية، ولكن القاضي عبدالجبّار ينصف بعض الشيء في ذلك ، ويقول : « والمعتمد في معنى الخبر على ما قدّمناه ، لأنّ كلّ ذلك لو صحّ ، وكان الخبر خارجا فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الّذي وجوده كعدمه في أنّ وجود الاستدلال بالخبر يتغيّر». ۱۱
ويذكر الشريف المرتضى قدس سره سبعة ردود على دعوى العلاّف ، بعضها داخلية تشكل تناقضا مضمونيا في هذه الأخبار ، وبعضها خارجية تنقض هذه الأخبار بطريقة علمية نزيهة. ۱۲
وفي مطاف البحث يتطارح البحث اللغوي مع القاضي عبدالجبّار المعتزليحول
كلمة «مولى» ومعانيها وما ينقله عن الأعلام كأبي مسلم والشيخ ابن قبة رحمه اللهفي ذلك. ۱۳
ومن البحوث اللغوية المنهجية والّتي وقع فيها الاغتشاش من زعماء المعتزلة هو : حديث الوصية ، وقد أرسله القاضي عبدالجبّار إرسال المسلمات ، وإن حاول لغويا أن يصرفه على ما يراد منه ، وهو قول النبيّ صلى الله عليه و آله «أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضى ديني» .
ويقرر القاضي عبدالجبّار عن لسان الشيعة بأنّهم يعتقدون: ألاّ يكون كذلك إلاّ وهو الّذي يقوم عنه القيام مقامه.
ثمّ نقل عنهم أنّهم قالوا: أفليس في تفويض الأمر إليه دلالة له أوكد من ذلك ـ حتّى قال :ـ وقد روي : «وقاضي ديني» بكسر الدال ، وذلك يدلّ على أنّه الإمام بعده ، بأقوى ممّا يدلّ ما تقدّم ؛ لأنّه قد أبان بذلك إنّه الّذي يقوم بأداء شريعته بعده. ۱۴
هذه هي الصراحة اللغوية في صعيد الخبر ، والحقّ مع الشيعة في استظهارهم في للخبر ، ولكن القاضي عبدالجبّار يضع بصمات التشكيك على بعض عبارات الخبر حتّى يجرفه في مطبّات لغوية اُخرى ، وهي:
1 . إنّ ألفاظ هذا الخبر مختلفة ، ففيه ما هو أظهر من بعض ، ويعتبر قوله: «أنت وصيي» أظهر من غيره.
ومن ثمّ يورد على هذا الاستظهار أنّه لا يدخل تحت الوصية إلاّ ما يختصّ الموصي من الأحوال دون ما يتعلّق بالدَّين والشرع ، ولا يدخل تحتها الإمامة. ۱۵
ولكن الشريف المرتضى قدس سره يقول: «إنّ المعتمد من لفظ الخبر في الدلالة على النصّ بلفظ الاستخلاف دون باقي الألفاظ ، ويعتبر البحث في ذلك من التشاغل في
الكلام ؛ لبداهة أنّ الوصية تختص في العرف بأمور مخصوصة لاتعلق للإمامة بها ، فذلك مسلم لاخلاف فيه ، وكذلك قضاء الدَّين». ۱۶
وهذه النقطة الّتي أبرزها الشريف المرتضى قدس سره وهي الظهور الصريح في الخبر ممّا يستحقّ التأمّل فيه.
ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار يعلّق على قوله: «وقاضي ديني» قائلاً : « فهو بعض ما تناولته الوصية ، فإذا كانت لاتدلّ على الإمامة فبالاّ يدلّ ذلك عليها أولى ، وإنّما أشبهه في الوصية المطلقة ، فأمّا إذا خصصت بأمر مخصوص فلاشبهة فيها ».
ثمّ يقول: «فأمّا من روى ذلك بكسر الدال ، فقد أبعد من جهة الرواية ؛ لأنّ المشهور ما قدّمناه.
وقد قال شيخنا أبو هاشم: إنّ هذا اللفظ مضطرب ؛ لأنّ القضاء لايستعمل إلاّ في الدَّين ، فأمّا في أداء الشرائع والدَّين فلا يستعمل ، فإذا اُريد به معنى الأخبار ، قالوا : قضينا إليه ، كما قال تعالى: «وَ قَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَ ءِيلَ فِى الْكِتَـبِ» ،۱۷ فلو كان صلى الله عليه و آله أراد ذلك لقال: القاضي ديني إلى اُمّتي ، ولا يجوز في هذا الموضع أن يحذف ذكر «إلى» ؛ لأنّ ذلك ليس بمختار.
فهذا الوجه أيضا يضعف الخبر من جهة اللفظ.
ثمّ قال: وقال ـ يعني أبا هاشم ـ : إنّ المراد بذلك إن كان أنّه يؤدي عنه ما تحمّله من الشرائع غير ما لم يتحمّله من الشرائع فحكم غيره من الصحابة حكمه ، فكيف يدلّ على الإمامة ؟ ! ». ۱۸
ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بأنّ الرواية ـ بكسر الدال ـ غير معروفة ، ويترقّى
الشريف المرتضى قدس سرهمسلّما أنّه حتّى لو كانت الرواية بذلك معروفة ، فهي أيضا تدلّ على معنى الإمامة والاستخلاف ، ويأتي بشاهد على هذا الأمر ، ومن ثَمّ يتطرّق إلى إشكال أبي هاشم قائلاً: «فأمّا قول أبي هاشم: ـ إنّ الكلام يحتاج إلى زيادة ، وأنّه كان يجب أن يقول القاضي : ديني إلى اُمتي ـ فهذا إنّما كان يجب لو أراد بلفظ القضاء الأخبار ؛ لأنّ لفظة «إلى» إنّما يحتاج إليها من هذا الوجه ، فأمّا إذا اُريد بالقضاء الحكم فذلك غير واجب». ۱۹
ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار يضعّف الخبر من جهة اُخرى كما هو ديدنه، فيقول: إنّ قوله صلى الله عليه و آله : «خليفتي من بعدي» غير معروف ، والمعروف : «خليفتي في أهلي » ، وذلك لا يدلّ على الإمامة ، بل تخصيصه بالأهل يدلّ على أنّه أراد عليه السلام أن يقوم بأحوالهم...». ۲۰
ويصرّح الشريف المرتضى قدس سره ـ بعد بحث قصير مع القاضي عبدالجبّار ـ بأنّه حتّى لو أخذنا بالرواية غير المعروفة : «خليفتي في أهلي» فإنّها نصّ في الإمامة ، ويأتي بشاهد على هذا الأمر. ۲۱
وفي نهاية البحث في هذا الخبر يتطرّق القاضي عبدالجبّار إلى نكتة ، قائلاً : «لو كان ما تعلّقوا به حقّا لقد كان عليه السلام يدعي به النصّ ، ولا يستجيز ترك ذكره عند اختلاف الأحوال في باب الإمامة على ما قدّمنا القول به ، وقد بيّنا أنّ ما ثبت من إمامة أبي بكر ، ثمّ عمر يقتضي صرف ما ظاهره الإمامة عن ظاهره ، فبأن يجب لأجل ذلك إبطال التعلّق بالمحتمل من القول أولى». ۲۲
يقول الشريف المرتضى قدس سره ـ معلّقا على هذا النصّ ـ : « إنّ هذا الخبر وأمثاله من ألفاظ النصّ غير محتمل ، وأنّ ظواهرها وحقائقها تقتضي النصّ بالإمامة ، ولم يثبت
ما ادّعاه من إمامة من ذكره على وجه فضلاً عن ثبوتها على وجه غير محتمل ، فينصرف لذلك في ظواهر النصوص». ۲۳
بهذه الشفافية في البحث والتعليق استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يردّ على التهافتات في المتن، حتّى على جميع الاحتمالات الّتي طرحها الخصم بجرف الخبر لصالحه ومعتقداته.

1.راجع : القسم الرابع عشر : بركات حبّه / الاهتداء .

2.مريم : ۷۱ .

3.أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ): ج ۲ ص ۵۰ ـ ۵۳ .

4.أجوبة مسائل متفرقة من الحديث وغيره : ص ۱۴۶ ـ ۱۴۷ ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة).

5.الحديد : ۱۵ .

6.الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۶۸ ـ ۲۶۹.

7.المصدر السابق : ص ۲۷۹ ـ ۲۸۳.

8.المصدر السابق : ص ۲۷۳.

9.التحريم : ۴ .

10.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۴۶ ، وانظر : الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۸۳ ـ ۲۸۴ .

11.الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۸۴ ـ ۲۸۶.

12.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۵۴ .

13.الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۳۱۲ ـ ۳۱۴.

14.المصدر السابق : ص ۳۱۴ ـ ۳۲۵.

15.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۱ .

16.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۱، الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۷۷ .

17.الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۷۹.

18.الإسراء : ۴.

19.الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۷۷ ـ ۷۸.

20.المصدر السابق : ص ۷۹ ـ ۸۰ .

21.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۵ .

22.الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۸۰ .

23.المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۵ .

24.الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۸۱ .


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
288
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 71306
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي