483
حكم النّبيّ الأعظم ج5

تحليل حول منع الدعاء للمشركين والكافرين والظالمين

مرّ آنفا أنّ المشركين ، والكافرين ، والظالمين هم ممّن لا ينبغي الدعاء لهم . والسؤال الذي يُطرَح في هذا الشأن هو أنّ الدعاء في الحقيقة طلب الخير من اللّه للآخرين ، فَلِمَ لا يطلب المسلم الخير حتّى لمن لا يتّفقون معه في العقيدة ، وأيضا للظالمين والجائرين؟ فهم مهما كان من بني البشر . ونحن نقرأ أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال لمالك الأشتر رضوان اللّه عليه في عهده إليه :
وأشعِر قَلبَكَ الرَّحمَةَ لِلرَّعِيَّةِ ، وَالمَحَبَّةَ لَهُم وَاللُّطفَ بِهِم ولا تَكونَنَّ عَلَيهِم سَبُعا ضارِيا تَغتَنِمُ أكلَهُم ، فَإِنَّهُم صِنفانِ إمّا أخٌ لَكَ فِي الدّينِ أو نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ .۱
ولا ريب أنّ من المصاديق البارزة للرحمة ، والمحبّة ، واللطف ، وطلب الخير لمن لم يختاروا سواء السبيل في حياتهم الدعاء من أجل هدايتهم وسعادتهم ، فلماذا لا ينبغي الدعاء للمشركين والكافرين؟
والجواب هو أنّ الذين مُنُوا بالانحرافات العقيديّة والعمليّة في حياتهم هم بعامّة صنفان :
الأوّل : المستضعفون ، وهم الذين انحرفوا بسبب جهلهم وفقدهم الامكانيّات اللازمة لمعرفة الحقّ واتّباعه .
الثاني : المعاندون ، وهم الذين عرفوا الحقّ وشاقّوه على علم منهم به لتهوّسهم واستعلائهم ، أو تكون الوسيلة والقدرة على معرفة الحقّ في متناول أيديهم ولكنّهم لا يكترثون لها ويتمسّكون بالباطل .
أمّا الصنف الأوّل فالدعاء لهدايتهم ليس ممدوحا فحسب ، بل كلّ سعي وجهد يُبذَل من أجل توعيتهم وتبصيرهم وتربيتهم وتعليمهم ضروريّ . ولذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يدعو لهداية قومه على الرغم من صنوف الأذى التي لقيها منهم . فقال صلى الله عليه و آله :
اللّهُمَّ اهدِ قَومي فَإِنَّهُم لا يَعلَمونَ .۲
وللمرحوم السيّد ابن طاووس رحمه الله المصنّف العظيم لكتاب «الإقبال» الكريم في هذا الشأن كلام في غاية الروعة والجمال يقول فيه : «وكنتُ في ليلةٍ جليلةٍ من شهر رمضانَ بعد تصنيفِ هذا الكتابِ [الإقبال] بزمانٍ ، وأنا أدعو في السَّحَرِ لِمَن يجِبُ أو يَحسُنُ تقديم الدعاء له ولي ولِمَن يَليقُ بالتوفيق أن أدعو له ، فورد على خاطِري أنّ الجاحدين للّه ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ ولِنِعَمِهِ والمُستخفّينَ بِحُرمَته ، والمُبدّلينَ لِحكمه في عباده وخَليقَته ، ينبغي أن يُبدَأ بالدعاء لهم بالهداية من ضَلالتهم ؛ فإنَّ جِنايتهم على الرُّبوبيّة ، والحكمة الإلهيّة ، والجَلالة النَّبويّة أشدُّ مِن جنايةِ العارفينَ باللّه ِ وبالرسول صلوات اللّه عليه وآله .
فيقتضي تعظيمُ اللّه وتَعظيمُ جلاله ، وتعظيمُ رسوله صلى الله عليه و آله وحقوقُ هدايته بمقاله وفِعاله ، أن يُقَدَّمَ الدعاءُ بهداية مَن هو أعظمُ ضررا ، وأشدُّ خطرا ، حيثُ لم يَقدر أن يزالَ ذلك بالجهاد ، ومَنعهم من الإلحاد والفساد .
أقول : فدعوتُ لكلِّ ضالٍّ عن اللّه بالهداية إليه ، ولكلِّ ضالٍّ عن الرسول بالرجوع إليه ، ولكلِّ ضالٍّ عن الحقِّ بالاعتراف به والاعتماد عليه .
ثمّ دعوتُ لأهل التوفيق والتحقيق بالثبوت على توفيقهم ، والزيادة في تحقيقهم ، ودعوتُ لنفسي ومن يعنيني أمرُهُ بحسب ما رجوتُه من الترتيب الذي يكون أقرب إلى مَن أتضرّعُ إليه ، وإلى مراد رسوله صلى الله عليه و آله ، وقد قدَّمتُ مهمّاتِ الحاجاتِ بحسب ما رجوتُ أن يكون أقرب إلى الإجابات .
أفلا تَرى ما تَضمّنه مقدّسُ القرآن من شفاعة إبراهيم عليه السلام في أهل الكفران!؟
فقال اللّه جلّ جلاله : «يُجَـدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَ هِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّ هٌ مُّنِيبٌ »۳ ، فمَدحَهُ جَلَّ جلالُهُ على حلمه وشفاعته ومجادَلته في قوم لوط ، الذين قد بَلَغَ كُفرُهم إلى تعجيل نقمته .
أما رأيتَ ما تضمّنته أخبارُ صاحب الرسالة ـ وهو قدوة أهل الجلالة ـ كيف كان كُلّما آذاهُ قومُهُ الكفّارُ وبالغوا فيما يفعلون . قال صلوات اللّه عليه وآله : «اللّهُمَّ اغفِر لِقَومي ؛ فَإِنَّهُم لا يَعلَمونَ» .
أما رأيتَ الحديثَ عن عيسى عليه السلام : «كُن كَالشَّمسِ تَطلُعُ عَلَى البَرِّ وَالفاجِرِ» ؛ وقولَ نبيّنا صلوات اللّه عليه وآله : «اِصنَعِ الخَيرَ إلى أهلِهِ وإلى غَيرِ أهلِهِ ؛ فَإِن لَم يَكُن أهلَهُ فَكُن أنتَ أهلَهُ» ؟ وقَد تضمّنَ ترجيحَ مقامِ المُحسنينَ إلى المسيئينَ قولُهُ جلَّ جَلالُه : «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »۴ ، ويَكفي أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله بُعِثَ رَحمةً للعالمين» . ۵
فالدعاء لهداية الضالّين غير مذموم وليس هذا فحسب بل ممدوح أيضا ، علما أنّ الاستغفار لهم لا يصحّ إن لم يصلحوا عقائدهم .
أمّا المعاندون فالدعاء لهم غير ممدوح ، وليس هذا فحسب بل مذموم ومحظور أيضا ، بل الدعاء عليهم لازم وضروريّ . ذلك أنّ الدعاء لمعاندي الحقّ والعدل فإذا كان من أجل دنيا اُولئك وسلامتهم وطول عمرهم فهو في الحقيقة دعاء لتوسيع نطاق الكفر ، والشرك ، والظلم ، والفساد في الأرض ، كما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قوله :
مَن دَعا لِظالِمٍ بِالبَقاءِ ، فَقَد أحَبَّ أن يُعصَى اللّه ُ في أرضِهِ .۶
أمّا إذا كان لأجل هداية اُولئك واصلاحهم فلا فائدة فى ذلك ، لأنّ هؤلاء لا يرجى منهم قابلية للهداية والاصلاح ، ومن الممكن أن يلحق ذلك تبعات ونتائج سياسية واجتماعية ضارّة وغير محمودة .
وروي عنه صلى الله عليه و آله حديث آخر قال فيه :
يَأتي عَلَى النّاسِ زَمانٌ يَدعو فيهِ المُؤمِنُ لِلعامَّةِ ، فَيَقولُ اللّه ُ تَعالى : اُدعُ لِخاصَّةِ نَفسِكَ أستَجِب لَكَ فَأَمَّا العامَّةُ فَإِنّي عَلَيهِم ساخِطٌ .۷
ورغم أنّ هذا الحديث ضعيف من حيث السند ولكنّه إن كان في وصف مجتمع تكون الغالبية من أفراده ظالمة ومعرضة عن الحقّ ، فلا بأس بمضمونه ، «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» . ۸
على هذا الأساس ، كان أولياء اللّه لا يدعون لحماة الباطل وأعداء الحقّ والعدالة ، بل يدعون عليهم .

1.نهج البلاغة : الكتاب ۵۳ .

2.الخرائج والجرائح : ج ۱ ص ۱۶۴ ح ۲۵۲ ؛ تاريخ دمشق : ج ۶۲ ص ۲۴۷ .

3.هود : ۷۵ .

4.الممتحنة : ۸ .

5.الإقبال : ج ۱ ص ۳۸۴ ـ ۳۸۵ .

6.بحار الأنوار : ج ۷۵ ص ۳۳۴ ح ۶۹ .

7.حلية الأولياء : ج ۶ ص ۱۷۵ عن أنس .

8.الرعد : ۱۱ .


حكم النّبيّ الأعظم ج5
482
  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج5
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 197886
الصفحه من 622
طباعه  ارسل الي