19
بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)

المبعث ، ويشرّف به منازلنا عند مواقف الأشهاد « لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسِم بِمَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْـلَمُونَ »۱« يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـئا وَ لاَ هُمْ يُنصَرُونَ »۲ ، حمدا يَرتَفِعُ منّا إلى أعلى عليّين ، في كتاب مرقوم يشهده المقرّبون ، حمدا تقرّ به عيوننا إذا برقت ۳ الأبصار ، وتبيّضُ به وجوهنا إذا اسودت الأبشار ۴ ، حمدا نُعتَق به من أليم نار اللّه إلى كريم جوار اللّه ، حمدا نُزاحم به ملائكته المقرّبين ، ونُضام ۵ به أنبياؤه المرسلين في دار المقامة ۶ الّتي لا تزول ، ومحلّ كرامتة الّتي لا تحول .
والحمد للّه الّذي اختار لنا محاسن الخلق ، وأجرى علينا طيّبات الرزق ، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق ، فكلّ خليقته منقادة لنا بقدرته ، وصائرة إلى طاعتنا بعزّته .
والحمد للّه الّذي أغلق عنّا باب الحاجة إلاّ إليه ، فكيف نطيق حمده ، أم متى نؤدّي شكره ، لامَتى ۷ ؟!
والحمد للّه الّذي ركّب فينا آلاتِ البسط ، وجعل لنا أدوات القبض ، وَمَتَّعنا بأرواح الحياة ، وأثبت فينا جوارح الأعمال ، وَغذّانا بطيّبات الرّزق ، وَأغْنانا بفضله ، وَأقْنانا ۸ بمنّه ، ثُمَّ أمرنا ليختبر طاعتنا ؛ وَنَهانا ليبتلي شكرنا ، فَخالَفْنا عن طريق أمره ، وَرَكِبْنا متون زجره ، فلم يَبْتدرنا بعقوبته ، ولم يُعاجِلْنا بنقمته ، بل تأنّانا برحمته تكرّما ، وانتظر مراجعتنا برأفته حلما .

1.الجاثية : ۲۲ .

2.الدخان : ۴۱ .

3.«بَرقَ البصرُ برقا وبروقا» : تحيّر فزعا حتّى لا تطرف ، أو دهش فلم يبصر .

4.«الأبشار» : جمع بشر ـ بالتحريك ـ كسبب وأسباب ، وهو جمع بَشَرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان .

5.«انْضَمَّ الشيء» : اجتمع بعضه إلى بعض .

6.«المقامة» : مصدر بمعنى الإقامة ، ألحقت به التاء ، أي دار الإقامة الّتي لا انتقال عنها أبدا .

7.قد يتوهم أنه وقع من العبارة شيء ، ولكن ليس كذلك ، والمعنى : لا يمكن تأدية شكره متى يمكن ذلك .

8.«القنا» ـ بالكسر والقصر ـ : مثل إلاّ ، بمعنى الرضا ، يقال : «أقناه اللّه » ، أي أرضاه .


بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
18

لا ينقص من زاده ناقص ، ولا يزيد من نقص منهم زائد .
ثُمَّ ضرب له في الحياة ۱ أجلاً موقوتا ، ونصب له أمدا محدودا ، يتخطى إليه بأيّام عمره ، ويرهقه ۲ بأعوام دهره ، حتّى إذا بلغ أقصى أثره ۳ ، واستوعب حساب عمره ، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه ، أو محذور عقابه « لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَــئواْ بِمَا عَمِلُواْ وَ يَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى »۴ عدلاً منه ، تقدّست أسماؤه ، وتظاهرت آلاؤه ، «لاَ يُسْـئلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْـئلُونَ »۵ .
والحمد للّه الّذي لو حبس عن عباده معرفة حمده ـ على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ـ لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حد البهيميّة ، فكانوا كما وَصَفَ في محكم كتابه : « إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَـمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً »۶ .
والحمد للّه على ما عرّفنا من نفسه ، وألهمنا ۷ من شكره ، وفتح لنا من أبواب العلم ۸ بربوبيته ، ودلّنا عليه من الإخلاص له في توحيده ، وجنّبنا من الإلحاد والشرك في أمره ، حمدا نُعمّرُ به فيمن حمده من خلقه ، ونسبق به فيمن سبق إلى رضاه وعفوه ، حمدا يُضيء لنا به ظلمات البرزخ ۹ ، ويُسهّل علينا به سبيل

1.في بعض النسخ : «الحياة الدنيا» .

2.رهقت الشيء رهقا من باب تعب قربت منه.

3.الأثر : «الأجل» ، ومنه الحديث : «مَن سره أن يبسط اللّه في رزقه ، وينسأ في أثره ـ أي في أجله ـ فليصل رحمه» .

4.النجم : ۳۱ .

5.الأنبياء: ۲۳.

6.الفرقان : ۴۴ .

7.قال في تفسير غريب القرآن : «يقال لما يقع في النفس من عمل الخير إلهام ، ولما يقع من الشر وما لا خير فيه وسواس» .

8.في نسخةٍ : «المعرفة» .

9.البرزخ في اللغة : «الحاجز بين الشيئين» ، وأُطلق على الحالة الّتي تكون بين الموت والبَعث . نفس المصدر .

  • نام منبع :
    بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
    المساعدون :
    الحائری، جعفر عباس
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1425 ق / 1383 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 237817
الصفحه من 336
طباعه  ارسل الي