29
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

قوله : «فكم من مهمٍّ من جوابه عرفه فعيّ عن ردّه !» ، نحو أن يكون له مالٌ مدفونٌ يُسأل عن حال ما يكون محتَضرا ، فيحاول أن يعرِّف أهلَه به فلا يستطيع ، ويعجز عن ردّ جَوابِهم ، وقد رأينا مَنْ عَجزَ عن الكلام فأشار إشارةً فهموا معناها ، وهي الدّواة والكاغَد ، فلمّا حضر ذلك أخذ القلم وكتب في الكاغد ما لم يُفْهَم ، ويده تُرْعَد . ثم مات .
قوله : «ودعاءٍ مؤلمٍ لقلبه سمعه فتصامّ عنه» ، أظهر الصّمم ؛ لأنّه لا حيلة له . ثم وصف ذلك الدعاء فقال : «من كبير كان يعظّمه» ، نحو صُراخ الوالد على الولد والولد يسمع ولا يستطيع الكلام . «وصغير كان يرحمه» ، نحو صراخ الولد على الوالد ، وهو يسمع ولا قدرة له على جوابه .
ثم ذكر غمرات الدنيا فقال : إنها أفظَع من أن تحيط الصفاتُ بها . وتستغرقُها ، أي تأتي على كُنْهِها ، وتُعبّر عن حقائقها .
قوله : «أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» ، هذا كلام لطيف فصيح غامض ، ومعناه أنّ غمرات الموت وأهواله عظيمة جدّا لا تستقيم على العقول ولا تقبلها إذا شرحت لها ووصفت كما هي على الحقيقة ، بل تنبو عنها ، ولا تصدق بما يقال فيها ، فعبّر عن عدم استقامتها على العقول بقوله : «أو يعتدل» ، كأنه جعلها كالشيء المعوجّ عند العقل ، فهو غير مصدّق به .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
28

فإن قلت : لم قال : «من تسكين الحارّ بالقارّ ، وتحريك البارد بالحارّ»؟ ولأيّ معنى جعل الأول التسكين والثاني التحريك؟
قلت : لأنّ من شأن الحرارة التهييج والتّثوير ، فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة « التسكين» ، ومن شأن البرودة التخدير والتجميد ، فاستعمل في قهرها بالحارّ لفظة « التحريك » .
قوله : «ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلاّ أمدّ منها كل ذات داء» ، أي ولا استعمل دواء مفرداً معتدل المزاج أو مركّباً كذلك إلاّ وأمدّ كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول . وينبغي أن يكون قولُه : «ولا اعتدل بمُمازج» ، أي ولا رام الاعتدال لممتزج ؛ لأنّه لو حصل له الاعدال لكانَ قد بَرِئ من مرضه ، فَسمّى محاولة الاعتدال اعتدالاً ؛ لأنّه باستدلال المعتدلات قدْ تهيّأ للاعتدال ، فكان قد اعتدل بالقوّة . وينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول «أمدّ» ، وتقديره «بمرضٍ» كما قدّرناه نحن ، وحذف المفعولات كثير واسع .
قوله : «حَتّى فَتَر معلّله» ؛ لأنّ معلّلي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط ؛ لأنّهم يرجُون البُرْء ، فإذا رأوْا أمارات الهلاك فترت همتهم . «وذَهَل ممرّضُه» ، ذَهَل بالفتح ، وهذا كالأوّل ؛ لأنّ الممرّض إذا أعيا عليه المرض ، وانسدّت عليه أبواب التدبير يذهَل . « وتعايا أهله بصفة دائه» ، أي تعاطوا العِيّ وتساكتوا إذا سُئِلوا عنه ، وهذه عادة أهل المريض المُثقل ؛ يجمْجِمون إذا سئلوا عن حاله . «وتنازعوا دونه شَجَى خبرٍ يكتمونه» ، أي تخاصموا في خبرٍ ذي شجَى ، أي خبر ذي غُصّةٍ يتنازعونه وهم حول المريض سترا دونه ، وهو لا يعلم بنجواهم ، وبما يُفيضون فيه من أمره . فقائل منهم : هو لما به ، أي قد أشفى على الموت . وآخر يمنّيهم إياب عافيته ، أي عَوْدَها ، آب فلان إلى أهله ، أي عاد . وآخر يقول : قد رأينا مثل هذا ، ومَنْ بلغ إلى أعظِم من هذا ثمّ عوفِيَ ، فيمنّي أهلَه عَوْد عافيته . وآخر يصبّر أهله على فقده ، ويذكر فضيلة الصّبْر ، وينهاهم عن الجزع ، ويروِي لهم أخبار الماضين . وأُسي أهليهم ، والأُسَى . جمع أُسْوة ، وهو ما يتأسّى به الإنسان .
قوله : «على جناح من فراقِ الدنيا» ، أي سَرْعان ما يفارقها ؛ لأنّ مَنْ كان على جناح طائر ، فأوشِكْ به أن يسقط ! قوله : «إذْ عَرَض له عارض» يعني الموت . ومن غُصصه : جمع غُصّة . وهو ما يعترض مَجْرى الأنفاس . «فتحيّرت نوافذ فطنته» ، أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيّرت عند الموت ، وتبلّدت . «ويبست رطوبةُ لسانِه» ؛ لأنّ الرّطوبة اللّعابيّة الّتي بها يكون الذوق تنشف حينئذٍ ، ويبطل الإحساس باللسان تبعدا لسقوط القوة .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 113210
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي