555
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ثبوتها واستقرارها . وقوله : « فالحدّ لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب » ، وقوله : « ولا له بطاعة شيء انتفاع » ؛ لأ نّه إنّما ينتفع الجسم الذي يصحّ عليه الشهوة والنّفرة ؛ كلُّ هذا داخل تحت هذا الوجه .
الأصل الثاني : أ نّه تعالى عالم لذاته ، فيعلم كلَّ معلوم ، ويدخل تحت هذا الأصل قوله عليه السلام : « لا تخَفى عليه من عبادِه شخوص لحظة » ، أن تسكن العين فلا تتحرّك . ولا « كرور لفظة » ، أي رجوعها . « ولا ازدلاف ربوة » ، صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرْض ، وهي الموضع المرتفع . « ولا انبساط خطوة . في ليل داج » ، أي مظلم . « ولا غسق ساج » ، أي ساكن . ثم قال : « يتفيّأ عليه القمر المنير » ، هذا من صفات الغَسَق ، ومن تتمّة نعته ؛ ومعنى « يتفيّأ عليه » : يتقلّب ذاهبا وجائياً في حالَتَيْ أخذه في الضوء إلى التبدّر ، وأخذه في النقص إلى المحاق . وقوله : « وتعقّبه » ، أي وتتعقّبه ، فحذف إحدى التاءين ، كما قال سبحانه : « الَّذِينَ تَوفَّاهُمُ المَلائِكَةُ »۱ ، أي « تتوفّاهم » ، والهاء في « وَتَعَقَّبُهُ » تَرجع إلى القمر ، أي وتسير الشمس عقِبه في كروره ، وأُفوله ، أي غيبوبته ، وفي تقليب الأزمنة والدهور ، من إقبال ليلٍ وإدبار نهار . كأنه عليه السلام قال : لا يخفى على اللّه حركةٌ في نهار ولا ليل ، يتفيّأ عليه القمر ، وتعقبه الشمس ، أي تظهر عقيبه ، فيزول الغسق بظهورها .
الأصل الثالث : أ نّه تعالى قادر لذاته ، فكان قادرا على كلّ الممكنات ، ويدخل تحته قوله : « لم يخلق الأشياء من أُصول أزليّة ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته » ، والردّ في هذا على أصحاب الهيولى والطينة التي يزعمون قدَمها . ويدخل تحته قوله : « ليس لشيء [منه] امتناع » ؛ لأ نّه متى أراد إيجادَ شيء أوجدَه ، ويدخل تحته قوله : « خرّت له الجباه » ، أي سجدت . و « وحّدته الشفاه » ، يعني الأفواه ، فعبر بالجزء عن الكلّ مجازاً ؛ وذلك لأنّ القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أُصول النِّعم . كالحياة والقدرة والشهوة .
واعلم أنّ هذا الفنّ هو الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام عن العرب في زمانه قاطبة ، واستحقّ به التقدّم والفَضْل عليهم أجمعين . ولم يُنْقَل عن أحد من العرب غيره في هذا الفنّ حرف واحد ، ولا كانت أذهانهم تَصِلُ إلى هذا ، ولا يفهمونه بهذا الفن ، فَهْوَ منفرد فيه ، وبغيره من الفنون مشارك لهم ، وراجح عليهم .

1.سورة النساء ۹۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
554

أُصول :
الأصل الأول : أنه تعالى واجب الوجود لذاته ، ويتفرّع على هذه الأصل فروع :
أولها : أنه ليس لأوّليّته ابتداء ؛ لأ نّه لو كان لأوّليته ابتداء لكان محدَثاً ، ولا شيء من المحدَث بواجب الوجود .
وثانيها : أ نّه ليس لأزليّته انقضاء ؛ لأ نّه لو صحّ عليه العَدَمُ لكان لعدَمه سبب ، فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه ، والمتوقِّف على غيره ، يكون ممكنَ الذات ، فلا يكون واجبَ الوجود . وقوله عليه السلام : « هو الأوّل لم يزَلْ ، والباقي بلا أجَل » تكرار لهذين المعنيين السابقيْن على سبيل التأكيد ، ويدخل فيه أيضا قوله : « لا يقال له مَتَى ، ولا يضرب له أمد بحتّى » ؛ لأنّ « متى » للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان ، و « حتى » للغاية وواجب الوجود لا غاية له . ويدخل أيضاً فيه قوله : « قبل كلّ غاية ومدّة ، وكلّ إحصاء وعدّة » .
وثالثها : أ نّه لا يشبهُ الأشياء البتّة ؛ لأنّ ما عداه إمّا جسم أو عَرَض أو مجرّد ، فلو أشبهَ الجِسْم أو العرض لكان إمّا جسماً أو عرضاً ، ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما . ولو شابَه غيرَه من المجرّدات ـ مع أنّ كل مجرد غير مُمْكِن ـ لكان ممكنا ، وليس واجب الوجود بممكن ، فيدخل في هذا المعنى قوله عليه السلام : « حَدّ الأشياء عند خَلْقهِ لها ، إبانة لَهُ من شبهها » ، أي جعل المخلوقاتِ ذوات حدود ليتميّز هو سبحانه عنها ، إذ لا حدّ له ، فبطل أنْ يشبهه شيء منها . ودخل فيه قوله عليه السلام : « لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح » . والأدوات : جمع أداة وهي ما يعتمَد به ، ودخل فيه قوله : « الظّاهر فلا يقال : مم » ؟ أي لا يقال : من أيّ شيء ظَهَر ، « والباطن فلا يقال : فيم » ، أي لا يقال فيما ذا بطن ؟ ويدخل فيه قوله : « لا شَبحٌ فيتقصّى » والشّبح : الشخص . ويُتقصّى : يطلب أقصاه . ويدخل فيه قوله : « ولا محجوب فيحوَى » ، وقوله : « لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق » ؛ لأنّ هذه الأُمور كلّها من خصائص الأجسام ، وواجب الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها . ويدخل فيه قوله عليه السلام : « تعالى عما ينحَلُه المحدّدون من صفات الأقدار » ، أي مما ينسبه إليه المشبهة والمجسّمة من صفات المقادير ، وذوات المقادير . « ونهايات الأقطار » ، أي الجوانب . « وتأثّل المساكن » ، مجدٌ مؤثّل ، أي أصيل ، وبيت مؤثّل ، أي معمور . وكأنّ أصلَ الكلمة أن تبنى الدار بالأثْل ، وهو شجر معروف . وتمكّن الأماكن :

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 87776
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي