5 ـ عصر الشيخ ابن شهر آشوب ( ت 588 ه )
هو الشيخ أبو جعفر ، محمّد بن عليّ بن شهر آشوب ابن أبي نصر ، السروي المازندراني ، رشيد الدين .
قال الصفدي :
أحد شيوخ الشيعة ، حفظ القرآن وله ثمان سنين .
قال ابن أبي طيّ الحلبي :
اشتغل بالحديث ، ولقي الرجال ، ثمّ تفقّه وبلغ النهاية في فقه أهل البيت ، ونبغ في الأُصول ، ثمّ تقدّم في القراءات والقرآن ، والتفسير ، والعربيّة .
وكان مقبول الصورة ، مليح العرض على المعاني ، وصنّف في : المتّفق والمفترق ، والمؤتلف والمختلف ، والفصل والوصل ، وفرّق بين رجال الخاصّة ورجال العامّة .
كان كثير الخشوع ، مات في شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمئة .
وقال الصفديّ : بلغ النهاية في أُصول الشيعة ، كان يرحل إليه من البلاد ، ثمّ تقدّم في علم القرآن ، والغريب ، والنحو .
ووعظ على المنبر أيّام المقتفي ببغداد ، فأعجبه وخلع عليه ، وأثنى عليه كثيرا .
وقال الداوودي في طبقات المفسّرين :
كان إمام عصره ، وواحد دهره ، أحسن الجمع والتأليف ، وغلب عليه علم القرآن والحديث ، وهو عند الشيعة كالخطيب البغدادي لأهل السُنّة في تصانيفه ، وتعليقات الحديث ورجاله ومراسيله ، ومتّفقه ومفترقه ، إلى غير ذلك من أنواعه . واسع العلم ، كثير الفنون ، قال ابن أبي طيّ : ما زال الناس بحلب لا يعرفون الفرق بين « ابن بطّة » الحنبلي ، و « ابن بُطّة » الشيعي ، حتّى قدم الرشيد ، فقال : « ابن بطّة الحنبلي بالفتح ، والشيعي بالضمّ ۱ .
وقد تعرّض للمشكلة في ذيل آية : « . . . وَ لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ . . .» من الآية (31) من سورة هود ، فقال :
النبيّ والإمام يجب أن يعلما علوم الدين والشريعة ، ولا يجب أن يعلما الغيب ، وما كان وما يكون ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى أنّهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته ، ومعلوماته لا تتناهى ، وإنّما يجب أن يكونا عالمين لأنفسهما ، وقد ثبت أنّهما عالمان بعلم محدثٍ .
والعلم لا يتعلّق ـ على التفصيل ـ إلّا بمعلومٍ واحدٍ ، ولو علما ما لا يتناهى ، لوجب أن يعلما وجود ما لا يتناهى من المعلومات ، وذلك محالٌ . ويجوز أن يعلما الغائبات والكائنات الماضيات ، والمستقبلات ، بإعلام اللّه تعالى لهما شيئا منها .
وما روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم أنّه مقتولٌ ، وأنّ قاتله ابن ملجم ، فلا يجوز أن يكون عالما بالوقت الّذي يقتله فيه على التمييز ؛ لأنّه لو علم ذلك لوجب عليه أن يدفعه عن نفسه ، ولا يُلقي بيده إلى التهلكة ! وأنّ هذا ـ في علم الجملة ـ غير واجبٍ ۲ .
إنّ ما أثبته الشيخ ابن شهر آشوب موافقٌ لما سبق ذكره سوى نقطة واحدة : فما ذكره من نفي « علم الغيب بالاستقلال » عن الأئمّة ، مجمعٌ عليه بين المسلمين ؛ وذلك لما ذكرنا في صدر هذا البحث من دلالة الآيات الكريمة على اختصاص ذلك باللّه تعالى .
مضافا إلى ما ذكره ابن شهر آشوب من الاستدلال العقلي بأنّ النبيّ والإمام محدود متناهٍ ، والغيب لا حدّ له ، ولا يمكن أن يحيط المحدود باللّامنتهي . ثمّ ما ذكره من إمكان علم الغيب بإعلام اللّه تعالى : هو أيضا ممّا أجمعت عليه الطائفة ، ودلّت عليه الآيات الكريمة الّتي ذكرناها في صدر البحث .
وأمّا التفرقة بين علم الإمام بالحوادث ، وخصوصا ما يرتبط بقتله ، من الالتزام بالتفصيل في غير وقت القتل ، والالتزام بالإجمال فيه ، فهذا أيضا قد سبق قول المرتضى فيه والتزامه .
وقد أضاف ابن شهر آشوب تصريحا بأنّه على فرض علم الإمام بوقت قتله بالعلم الإجمالي ، فلا يرد عليه اعتراض الإلقاء في التهلكة ؛ لأنّ الدفع حينئذٍ غير واجب لفرض الإجمال فيه وعدم معرفته بالتفصيل .
وإنّما اختّص ابن شهر آشوب بالتزامه بالاعتراض على تقدير علم الإمام بوقت قتله تفصيلاً ، فقال : « فلا يجوز أن يكون عالما بالوقت الّذي يقتله فيه على التمييز ؛ لأنّه لو علم ذلك لوجب عليه أن يدفعه عن نفسه ، ولا يلقي بيده إلى التهلكة » .
وهذه هي النقطة الّتي خالف فيها ابن شهر آشوب من سبقه ؛ لأنّ الشيخ المفيد الّذي أشار إلى مسألة علم الجملة ، قال بإمكان القول بالتفصيل ، ومنع كون ذلك من الإلقاء في التهلكة ، لإمكان التعبّد بالصبر على القتل للإمام .
وحتّى السيّد المرتضى ـ الّذي التزم بالجملة ، ونفى التعبّد ـ لم يصرّح بالتزامه اعتراض الإلقاء في التهلكة على تقدير التفصيل ، فلعلّه دفعه بأحد الوجوه الكثيرة المتصوّرة ، والّتي يكون تحمّل القتل بها أمرا حسنا أيضا ولو بغير التعبّد !
ولعلّ ابن شهر آشوب عدّ فقدان الإمام ضررا وتهلكةً، فحكم فيه بوجوب الدفع وعدم الإلقاء ؛ محافظةً على وجوده الشريف لأداء مهمّات الإمامة .
لكنّ إطلاق لفظ « الضرر » ولفظ « التهلكة » على ما جرى على الإمام ممنوعٌ مطلقا ؛ فإنّه إذا علم الإمام إرادة اللّه تعالى لما يجري عليه ، مع أنّه يعلم ما فيه من المصلحة للدين والأُمّة ، والمصلحة لنفسه الشريفة بالفوز بالشهادة ورفع الدرجات والكرامة الإلهيّة ، بانقياده المطلق لأوامر اللّه تعالى ، وتسليمه المطلق للّه ، ورضاه بما يرضاه تعالى ، فلا ريب أن لا يكون فيما يُقدم عليه أيّ ضررٍ ، ولا يمكن أن يسمّى ذلك تهلكةً بأيّ وجهٍ ، إلّا في المنظار المادّي والدنيوي .
ونظرة إلى قصّة إبراهيم ، وولده الذبيح إسماعيل عليهماالسلام الّتي جاءت في القرآن الكريم ، حين أمر اللّه إبراهيم بذبح ابنه ، فقال تعالى في نهايتها : «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِيْنِ * وَنَادَيْناهُ أنْ ياإبْراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذِا لَهُوَ البَلاءُ المُبِيْنُ»۳ . . . فقد سمّى اللّه ذلك تسليما ، وتصديقا ، وإحسانا ، وجعله « بلاءً مُبينا » مع أنّه لم يتحقّق فيه ذبحٌ ، بل فُدي إسماعيل بذبحٍ عظيمٍ .
فإذا لم يكن ما جرى على إسماعيل إلقاءً في التهلكة وكان أمراً شرعيّا ؟ ! فلماذا لا يكون ما جرى على أهل البيت عليهم السلام من القتل ـ بأنواعه ـ أمرا شرعيّا متعبّدا به ، وقد تعبّدبه إبراهيم من قبل ؟ ! ولماذا لا يكون ما فعلوه تسليما وتصديقا لقضاء اللّه ، وإحسانا ؟ ! وقد تحمّلوه في سبيل اللّه ، وأهداف الدين السامية !
وأمّا « البلاء » هُنا فهو « أبين » ؛ لأنّه قد تحقّق ، وأُريقت دماء آل بيت الرسول عليهم الصلاة والسلام ، ولم يُفد عنهم بشيءٍ ! مع أنّ عمل الإمام ، لم يكن امتحانا خاصّا وفرديّا ، بل هو عملٌ أعظم وأهمُّ ، لكونه إحياءً للإسلام ولرسالة اللّه الخالدة .
فإذا علم الإمام بتفصيل أسباب ما يجري عليه من الحوادث ، ونتائجه الباهرة ، فهو أحرى أن ينقاد لامتثال ذلك والإطاعة لإرادة اللّه ، وعملٌ في مثل هذه العظمة والأهميّة ، لا يكون الموت من أجله « تهلكةً » .
كلّ هذا مع عدم وجود « جبرٍ » ولا إكراهٍ للإمام على شيءٍ ، وإنّما الأُمور هي تحت اختياره ، وبهذا يكون إقدامه أبلغ في الكشف عن عظمته وحبّه للّه والانقياد له تعالى ، لمّا يختار لقاء اللّه تعالى على النصر الدنيوي . وقد جاء هذا المعنى الأخير في بعض روايات الباب .
فإذا لم يكن إقدامهم على ما أصابهم أمرا « مضرّا » ولا يصحّ تسميته « تهلكةً »، ولا مانع من أن يكونوا عالمين به وعارفين له ، فكيف يجعل إقدامهم عليه دليلاً على نفي علمهم به ؟ !
1.. نقلنا هذه الكلمات من مقدّمة العلّامة الجليل السيّد محمّد صادق بحر العلوم رحمه الله لكتاب معالم العلماء لابن شهر آشوب : ص ۳ ـ ۵ ، فلاحظ مصادره ، وانظر أسماء مؤلّفاته في ذلك الكتاب : ص ۱۱۹ الرقم ۷۹۱ ، وهو آخر من اسمه (محمّد) .
2.. متشابه القرآن ومختلفه : ص ۲۱۱ .
3.. الصافّات : ۱۰۳ ـ ۱۰۶ .