الأمر الخامس :
إنّ تسمية الفعل الّذي يقدم عليه الفاعل المختار سوءاً أو هلكةً ، إنّما يتبع المفسدة الموجودة في ذلك الفعل ، فإذا خلا الفعل في نظر فاعله عن المفسدة ، أو ترتّبت عليها مصلحةٌ أقوى وأهمّ من المفسدة ، ولو في نظره ، لم يُسمّ سوءً ولا هلكةً .
فليس لهذه العناوين واقعا ثابتا حتّى يقال : إنّ ما أقدم عليه الأئمّة هو سوء وهلكة ، بل هي أُمور نسبيّة تتبع الأهداف والأغراض والنيّات ، بل يُراعى في تسميتها الغرض ، فربّ نفعٍ في وقتٍ هو ضررٌ في آخر ، ورُبّ ضررٍ لشخصٍ هو نفعٌ لآخر .
قال تعالى : «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ»۱ .
وقال تعالى : «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَا وَيَجْعَلُ اللّه ُ فِيْهِ خَيْرَا كَثِيْرَا»۲ .
هذا في المنظور الدنيوي المادّي ، وأمّا في المنظار الإلهي والمثالي وعالم المعنويّات ، فالأمر أوضح من أن يُذكر أو يُكرّر .
فهؤلاء الأبطال الّذين يقتحمون الأهوال ، ويُسجّلون البُطولات في سبيل أداء واجباتهم الدينيّة والعقيديّة أو الوطنيّة والوجدانيّة أو الشرف ، إنّما يُقدمون على ما فيه فخرُهم ، مع أنّهم يحتضنون « الموت » ويعتنقون « الفناء » ، لكنّه في نظرهم هو « الحياة » و « البقاء » .
كما أنّ المجتمعات تُمجّد بأبطالها وتُخلّد أسماءهم وذكرياتهم ؛ لكونهم المضحّين من أجل الأهداف السامية ، وليس هناك من يُسمّي ذلك « هلاكا » أو « سوءاً » ، إلّا الساقط عن الصُعُود إلى مُستوى الإدراك ، وفاقد الضمير والوجدان من المنبوذين .
دون الّذين استبسلوا في ميادين الجهاد في الحروب والنضالات الدامية ، الساخنة أو الباردة ، ومن أجل إعلاء كلمة اللّه في الأرض ، أُولئك الّذين قال عنهم اللّه إنّهم : « . . . أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ * فَرِحِيْنَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُوْنَ بِالَّذِيْنَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ * يَسْتَبْشِرُوْنَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه ِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللّه َلا يُضِيْعُ أَجْرَ المُؤْمِنِيْنَ»۳ ، هؤلاء الّذين « قُتلُوا » في سبيل اللّه .
ولا بدّ أنّ الشهداء قد قصدوا الشهادة وطلبوها وأرادوها ، إذ لا يُسمّى من لا يُريدها « شهيدا » ، وهيهات أن يُعطاها من يفرّ منها ، مهما كان مظلوما ، وكان قتلُه بغير حقٍّ .
إنّ المسلم إذا اقتحم ميدانا بهدف إحقاق الحقّ أو إبطال الباطل ، ثمّ أصابه ما لا يُتحمّل إلّا في سبيل اللّه ، أو أدركه القتل وهو قاصدٌ للتضحية ، فإنّ ذلك ليس سوءاً ولا شرّا ، بل هو خيرٌ وبرٌّ ، بل هو فوق كلّ برٍّ ، وليس فوقه برٌّ ، كما نطق به الحديث الشريف عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « إنّ فوق كلّ بِرٍّ بِرٌّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل اللّه » .
فلا يدخل مثل هذا في « التهلكة » الّتي نهى اللّه عنها في الآية ، بل هو من « الإحسان » الّذي أمر اللّه به في ذيل تلك الآية فقال تعالى : «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيْكُمْ إلى التَهْلُكَةِ ، وأَحْسِنُوا إِنَّ اللّه َ يُحِبُّ المُحْسِنِيْنَ»۴ .
والشهادة هي إحدى الحُسنيين ـ النصر أو الشهادة ـ في قوله تعالى : «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُوْنَ بِنَا إَلّا إَحْدَى الحُسْنَيَيْنِ . . .»۵ .
وإذا لم يصحّ إطلاق « السوء » على ما أصاب النبيّ والإمام من البلاء في سبيل اللّه ، وعلى طريق الرسالة والإمامة ، ومن أجل إعلاء كلمة اللّه ، والدفاع عن الحقّ ودحر الباطل ، فالاستدلال بقوله تعالى : «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَا وَلاَ ضَرَّا إلّا مَا شَاءَ اللّه ُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوْءُ إِنْ أَنَا إِلّا نَذِيْرٌ وَبَشِيْرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ»۶ ، على نفي علم الغيب عن الرسول ، وإثبات أنّ السوء يمسّه فهو لايعلم به ؛ ليس استدلالاً صحيحا ، لفرض أنّ ما أصاب الرسول ـ وكذا الأئمّة ـ في مجال الدعوة والرسالة الإسلاميّة وأداء المهامّ الدينيّة ، لا يعبّر عنه بالسوء ، كما أوضحناه .
1.. البقرة : ۲۱۶ .
2.. النساء : ۱۹ .
3.. آل عمران : ۱۶۹ ـ ۱۷۱ .
4.. البقرة : ۱۹۵ .
5.. التوبة : ۵۲ .
6.. الأعراف : ۱۸۸ .