خطاب قائد الثورة الإسلامية في لقاء الأساتذة و الطلاّب المتخرجين من «كلية علوم الحديث» - صفحه 297

بسم الله الرّحمن الرّحيم
في البداية، نرحّب بالأساتذة والطلاّب الأعزّاء، فرحين بلقائكم، وقد قرّت عيوننا بالشباب الصالح والشابّات الصالحات الذين ركّزوا هممهم على الغور في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) .
ونشكر فضيلة الشيخ ري شهري على هذه الخدمة الخالدة التي قام بها، فهيى خدمة خالدة حقّاً، إنّها حديقة واسعة، غرس الشيخ نفسه بذورها، ونرى اليوم أشجارها تنمو شيئاً فشيئاً، وسوف لايطول الزمن حيث تأتي ثمارها، عندها سوف يُعرف مدى حجم العمل الذي قد تحقّق .
إنّ «الحديث الشريف» مهمٌّ جدّاً : فإنّ «حديث الثقلين» المتواتر والمعروف ، وهو قطعيّ الصدور، الذي جَعَلَ الرسول الأكرم فيه «كتاب الله، وعترته» خليفتين عنه وامتداداً لنبوّته إلى يوم القيامة، يدلّ بوضوح على حجّية الحديث الشريف .
وما ذكره الشيخ ري شهري من أنّ دار الحديث هو «دار القرآن» أيضاً، هو حقٌّ واقع، حيث لا يمكن التفرقة بين : «القرآن، والحديث» كما جاء في نصّ الثقلين : «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» .
وهذا يعني أنّ بركات العترة، وحضورهم في الدنيا، امتداداً للنبوّة الخاتمة، أمر ثابت، وإنّ أكبر شواهد ذلك الحضور وأوضحها وأكثرها لمساً ودركاً هي أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) .
وماذا يحتاجه الإنسان بعد هذا البيان ؟
إنّ هذا الحديث الشريف الذي نطق به الرسول الأكرم، الصادع بالقرأن الكريم قد جعل الحديث الشريف في مستوى القرآن في الحجّية والاعتبار .
يجب علينا أن نعرف الحديث .
بينما نجد الكثير من العلماء والكبار، الذين تبحّروا في فنون عديدة من العلم، لهم اطّلاع على الأحاديث الفقهيّة، لكنّهم ليسوا بذلك المستوى في ما يرتبط بسائر الأحاديث، وذلك لأنّهم منهمكون في الاستدلالات الفقهيّة التي هي محلّ ابتلائهم، ومورد استفتاء الناس منهم، ويجب عليهم الإجابة عن مسائلهم، فيلزم عليهم الاجتهاد وبالتالي يتداولون الأحاديث الواردة في باب تلك المسائل، فهم إنّما يراجعون الأحاديث الفقهيّة تبعاً لحاجتهم، وهي ليست إلاّ جزءاً من آلاف الأحاديث الأُخرى المتوفّرة :
فهناك أحاديث السنن والآداب ـ والآداب ليست هي المستحبّات فقط ـ كما خصّها البعض ـ بل هي أبعد سعة منها، فهي آداب الحياة والسنن الاجتماعية أيضاً ـ .
وهناك الأحاديث الحاوية لسيرة الأئمّة (عليهم السلام) وهي أبعاد هامّة .
وهناك الأحاديث العقائدية، حول التوحيد والنبوّة والمعاد، والإمامة، ومسألة الجبر والاختيار، وفيها الإشعاعات القويّة التي تملأ ساحة الفكر، عند من يبحث في هذه المعارف، نوراً وحركة وسرعة .
وفي مجال الآداب التي أشرنا إليها، فخزانة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)الجيّاشة ، مليئة بما يرتبط بعلاقات الناس مع بعض، وعلاقات الحكّام مع الناس، وعلاقات الناس بالطبيعة، وغير ذلك ممّا لو دخل الإنسان إلى آفاقها لضاع ولكان كورقة تطفو على سطح البحر .
إنّ الإنسان يعجز عن البلوغ إلى أعماقها .
ومع الأسف، فإنّ هذه الأحاديث، لا تُراجع غالباً، بل قد تراجع عرضاً، أو أن يُراجعها الوعّاظ لتغطية حاجاتهم على المنابر .
أمّا المجامع العلميّة، والحوزات الدينيّة، فهي لم تلجأ إلى مراجعة
هذه الأحاديث .
لا أُريد أن أُعاتب الحوزة الفقهيّة، لأنّ وجودها ضرورة ملموسة، والفقيه لابدّ أن يتخصّص ويصرف وقته في ما يخصّه من المباحث الأُصوليّة والمناهج الفقهيّة، وهذا يستغرق وقته، فليس من المنتظر أن يدخل في تخصّص الحديث أيضاً .
إنّما أُسائل الحوزة العامّة، فكما خصّصت هذه الإمكانات الهائلة للجانب الفقهيّ والدراسات الفقهيّة، فلماذا لم تخصّص مثل ذلك لعلوم الحديث ؟
يجب أن نربّي متخصّصين في علوم الحديث، وليس من الضروري أن يكون المحدّث فقيهاً وأُصوليّاً، بل يتخصّص بالحديث وعلومه، وهذا التخصّص أبعاد ومساحات واسعة جدّاً، وقد يقف المحدّث من خلال بحثه على نتائج باهرة، وآراء ونظريات مفيدة في الحياة العامّة، وفي المجالات الفقهيّة أيضاً .
فالمطلوب إذن : إيجاد الفضاء والإمكانات اللازمة، لفتح باب التخصّص في علوم الحديث، وهذا ما تبدو بوادره، ولابدّ أن يتّسع يوماً بعد آخر .
وعليكم ـ أنتم الذين تزاولون هذا التخصّص ـ أنّ تعلموا أنّ هذا العمل مهمّ وعظيم أن يتمرّس الإنسان في معرفة الحديث، فإنّي أعرف أشخاصاً تورّطوا في مشاكل عويصة على أثر عدم تمرّسهم في الحديث .
كان شخص معروف، يستهين بكتاب «بحار الأنوار» للعلاّمة المجلسي، حيث كان يعتقد بوجود حديث فيه يراه باطلا، لكنّه بالغَوْر فيه تبيّن له أنّه مشتبهٌ في حكمه على البحار، فكان ـ بعد ذلك ـ يقول : إنّ هذا الكتاب بحرٌ لا ساحل له .
وهذا كتاب «بحار الأنوار» هو واحدٌ من مصادرنا الحديثية ـ وإن كان هو من المصادر المفضّلة ـ ولكن لنا الكثير من المصادر الأُخرى .
فعلينا أن نعتدّ بجد بالحديث، وأن نستوعب علومه .
نعم، وكما قال الشيخ ري شهري، إنّ علوم الحديث، هو غير العلم بالحديث
ومعرفة متون الحديث .
إنّ معرفة المقدّمات ـ كتقسيم أنواع الحديث، وتاريخ الحديث، وغير ذلك من الأنواع ـ عبارة عن علوم الحديث، وقد ألّفوا كتبها بعنوان «علوم الحديث» .
كما أنّ علوم القرآن، غير العلم بالقرآن، فالمعلومات التي ترتبط بالقرآن، كأسباب النزول ووقت النزول، وكيفية جمع القرآن، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والقراءات القرآنية، ورسم القرآن، وأمثال هذه من المعارف، هي غير ما في القرآن من العلوم والمعارف، وهي التي تعرف من خلال التفسير .
يجب علينا أن نستوعب علوم الحديث التي هي كالمقدّمات للحديث نفسه، حتّى إذا واجهنا حديثاً، نكون على استعداد للوقوف على أبعاده من حيث الصحّة والسقم، ومعرفته بشكل دقيق .
إنّ هناك حقيقة واقعة هي : أنّ في الأحاديث ما هو دخيل وموضوع، وهذا حاصل في أحاديث العامّة وأحاديث الشيعة .
وقد ألّف ابن الجوزي كتاباً باسم «الموضوعات» إلاّ أنّه أدخل فيه أحاديث لا دليل على كونها موضوعة، وكذلك استدلّ على وضع أحاديث لاصحّة لاستدلاله، لكنّ وجود الحديث الموضوع ممّا لا ريب فيه، سواء في أحاديث العامّة أم أحاديث الشيعة .
وقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم حذّروا عن ما دسّه البعض في أحاديثهم .
فبماذا يجب أن نواجه ذلك ؟
قد نرى أنّ حديثاً لا أصل له، يتداوله جماعة من الناس، ويكون منشأً لاعتقاد باطل، والأحاديث التي لا أصل لها ليست قليلة، فالواجب أن ندخل في مجال «تهذيب الحديث» .
يجب أن نهذّب الأحاديث، ونميّز الأخطار التي تواجه الحديث، وهي عديدة، ترتبط بالنقل بالمعنى، وما يرتبط برواة الحديث، وحتّى التحريف
والتصحيف في النسخ، وضعف نسبة الكتب، وأخطاء طرق التحمّل، وأمثال ذلك .
و الأعمال المفروضة على الحديث عن عمد، من الخيانات والأغراض الفاسدة .
وحتّى الغلوّ الواقع، فإنّ بين أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) من أساء فهم بعض الأحاديث لما يكنّونه للأئمّة من ودّ وولاء، وهذا هو أحسن توجيه لما حصل منهم أنّهم أساؤوا فهم الأحاديث .
فقد ورد في شأن «محمّد بن سنان» أنّ أصحابه قالوا فيه : «كاد أن يطير» والطيران يعني في اصطلاح القدماء : الغلو، قالوا: «فقصصنا جناحيه» .
فمن هم القائلون هؤلاء ؟ إنّهم شخصيّات مثل يونس بن عبدالرحمن .
ولكن ّ آخرون وثّقوه وقبلوا روايته .
فإذا قبلنا حديث محمّد بن سنان في الفقه، جاء التساؤل : فهل «محمّد بن سنان» ثقةٌ أو لا ؟
فإن أدّى اجتهادنا الرجاليّ إلى أنّه «ثقة» فمعنى ذلك أنّ ما يرويه من الأحاديث في الفقه والأحكام ـ فقط ـ معتمدة، لا كلّ أحاديثه، لأنّ التي تتضمّن عقائده لابدّ من الحذر والاحتياط فيها .
إنّ مَنْ أفرط في الحبّ والولاء، إلى الحدّ الذي ادّعى في الأئمّة ما لا يرضونه من الاعتقاد، ونقل عنهم ما لا يرضونه من القول، فهذا لابدّ أن يحتاط في أخذ حديثه الذي من هذا النوع، ويتوقّف في ما رواه في مجال المعارف العقيدية .
وهكذا : عليّ بن أبي حمزة البطائني، اختلفوا في وثاقته على قولين، فلو التزمنا بكونه ثقةً ـ وإن كنت على خلاف هذا الرأي ـ فمعناه أنّ ما رواه في الفقه وأبواب الأحكام معتمد عليه، لكن ما رواه في العقائد فغير مقبول، لأنّه واقفيّ، يعادي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)فلا يمكن الاعتماد عليه في ما ينقله عنهم (عليهم السلام) من العقائد الفاسدة تأييدا لمذهبه .
إنّ ملاحظة هذه الجوانب أمر ضروري عندما نؤدّي إحدى واجباتنا المهمّة تجاه الحديث هو «تهذيب الحديث» .
إنّي دائماً أُعظّم كتاب «بحار الأنوار» للعلاّمة المجلسي، وأعتقد أنّه من الكتب العظيمة التي ألّفها، وفي عقيدتي أنّ هذا الكتاب من الكتب العظيمة على طول تاريخ التشيّع .
والعلاّمة المجلسي واحد من علمائنا المبتكرين، وقد قلت سابقاً : إنّ أوّل من ألّف عن «التفصيل الموضوعي للآيات القرآنية» هو الشيخ المجلسي، وأوّل من كتب عن تفصيل نهج البلاغة موضوعياً هو أيضاً، وأوّل من فصّل الأحاديث موضوعياً وبوّبها، هو أيضاً، ولم يسبقه أحد إلى هذه الابتكارات، وهذا مهمّ جدّاً، هذه ابتكارات العلاّمة المجلسي .
إنّه رجل عظيم حقّاً .
وإنّ بياناته التي ألحقها بالروايات، سواء في «بحار الأنوار» أم في «مرآة العقول» أم في «ملاذ الأخيار» قويّة جدّاً وعميقة ودقيقة .
إنّه شخصية علمية وعظيمة .
وكتاب «بحار الأنوار» الثمين، يحتوي على أحاديث كثيرة، يحكم عليها الإنسان باليقين بأنّها لم تصدر عن الأئمّة (عليهم السلام) فلماذا نقلها ؟
إنّه إنّما كان يهدف إلى التجميع للحديث، بعد القرون المتوالية التي مضت على كتب الشيعة وهي مكتومة تتداولها الأيدي فقط، وقد تعرّضت لأنواع الإبادة كالإحراق .
ولمّا استولى الصفويّون على الحكم، اشتغلوا بالفقه أوّلا ثمّ بالفلسفة، ولم يصل الدور إلى الحديث، وجاء العلاّمة المجلسي، وتنبّه إلى هذا الفراغ فملأه، واستغلّ منصبه كشيخ الإسلام، فجمع الأحاديث الموجودة برواية الشيعة الاثني عشرية، وكان هذا منه عملا مهمّاً جدّاً، لكنّه لم يكن يهدف إلى تهذيب الأحاديث، وإنّما ذلك
العمل الكبير هو واجبنا نحن . لكن كيف ؟
قد يقف أحدهم على حديث باطل، فلا يلاحظ أنّه مخالف للقرآن الكريم، ولا يلاحظ أنّه يُخالف قواعد أهل البيت (عليهم السلام) !
إذن يجب علينا تهذيب الحديث الشريف، ممّا يُريبه وما تسلّل إليه و لكن بالطريقة الصحيحة .
وما يجب أن يلاحظ في عمليّة التهذيب هو:
أن لا يستعجل في دفع الحديث وردّه واعتباره لا أصل له، ولا أن يفرّط به بعنوان «التهذيب» .
إنّ بعض من قام بعمليّة تهذيب الحديث ـ بزعمه ـ أسقط أكثر الأحاديث عن الاعتبار، مع أنّه من المستطاع لنا أن نقيّم الأحاديث بطرق عديدة :
منها : عرضها على سائر المعارف والعقائد الصحيحة الحقّة، ومعرفة انطباقها عليها .
ومنها : عرضها على القرآن الكريم .
ومنها : ملاحظة أسانيدها، والحكم عليها حسبها .
وهناك مناهج عامّة للتوثيق يمكن الاستعانة بها على تصحيح الأسانيد ويمكن التعويل عليها والاستناد إليها .
مثل مسألة «أصحاب الإجماع» التي أهملها بعضهم من أصلها، ولم يعيروها أيّة اهتمام واعتبار، مع أنّ الأمر بخلاف هذا .
هناك قاعدة صحيحة أنّ حجّية الحديث في باب الأحكام الفقهيّة تعني صحّة العمل على طبق الحديث، بخلاف أحاديث العقائد، حيث لا عمل تحتها، وإنّما هي ملتزمات عقيدية .
لكن حصول الوثوق بأنّ هذا الحديث صادر عن الإمام (عليه السلام) أمرٌ مهمٌّ، وهذا الوثوق يمكن أن نحصل عليه من طريق تصحيح السند، وهو طريق متين .
وليس الاعتراض على السند، ودفع الحديث على أساس ضعفه أمراً جائزاًفي كلّ مورد :
إنّ الاعتماد على التوثيقات العامّة، مثل كون الرواة من أصحاب الإجماع لتصحيح الأسانيد طريق واسع للتصحيح .
وكذلك ما ذكره الشيخ الطوسيّ عليه الرحمة من أنّ المشايخ الثلاثة المعروفين إنّما يروون عن الثقات، وأنّ مرسلاتهم بحكم المسندات الموثوقة ۱  . هذه القواعد العامّة للتوثيق لابدّ من الالتزام بها، لأنّها صحيحة .
وقد عارض بعض الأعلام قاعدة «أصحاب الإجماع» وادّعى أنّ المراد منها توثيق هؤلاء المذكورين (الثمانية عشر رجلا) فقط .
وليس الأمر هكذا، ومن تأمّل كلام «الكشي» الذي نقل هذا الإجماع ۲ يعرف أنّ مراده كون هؤلاء الرجال من «الفقهاء» .
وأمّا علاقة فقههم بوثاقة أحاديثهم ؟! فبيانه : أنّ الفقيه هو الشخص العارف بالدين والشريعة، ومثل هذا لابدّ أن يكون عارفاً بالحديث، فلمّا يروي الحديث ـ حتّى لو كان ضعيفاً ـ فهذا الحديث لابدّ أن يكون متنه صحيحاً، وإلاّ لم ينقله . وهؤلاء الفقهاء، لمكانتهم في الفقه والمعرفة بما يروون، فلابدّ أن تكون رواياتهم حجّة، فما يرويه أصحاب الإجماع، يكون حجّة قطعاً .

وأمّا ما ذكره الشيخ الطوسيّ عن المشايخ الثلاثة، فهو غير مسألة أصحاب الإجماع، بل هو مجرّد توثيق من الشيخ لهم، وهو غير تصحيح الحديث الذي دلّت عليه مسألة أصحاب الإجماع، فهنا أمران مختلفان .
هذه بحوث تخصّصية في علم الرجال، ولا نريد التوسّع فيها .
والمهمّ أنّ تهذيب الحديث ـ مع أنّه عملٌ شاقٌّ جدّاً، لابدّ فيه من إمعان النظر، ولا يجوز التسامح فيه ـ ليس بمعنى إلغاء كميّة كبيرة من الأحاديث، وإهمالها بدعوى عدم الحجّية .
كلاّ، فالطرق إلى تصحيح الأحاديث كثيرة، ومنها «التدقيق في المتون» : وممّا جرى لي في مشهد، في إحدى سنوات الاعتقال (عام 1349هـ ش) أنّي طلبتُ كتاب «الخصال» للشيخ الصدوق (رحمه الله) ـ وأنا ممن أعظّم كتب الصدوق، لأنّها قيّمة جدّاً، فإنّه مبتكر في كلّ ما ألّفه من عناوين، وأكثر ما كتبه من المؤلّفات فريدة لم يسبق إليه، ومنها كتاب «الخصال» ـ فلمّا وقفتُ عليه، كنت أُطالعه وأُعلّق على مواضع منه، ومن ذلك الحديث القائل : «كان على الحسن والحسين(عليهما السلام) تعويذان حشوهما من زغب جناح جبرئيل (عليه السلام)» ۳ فتصوّرت حينَها أنّ هذا الحديث باطلٌ وموضوعٌ !!
لأنّ الناظر إلى ظاهره يتراءى له أنّ جبرائيل كان يهبط في بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله)كالطيور التي ترفرف، فكان بعض ريشها يتساقط، وكانت الزهراء (عليها السلام) تجمع ذلك الريش، وتصنع منه تعويذين للحسن والحسين (عليهما السلام) ! .
كان حكمي حين ذاك على هذا الحديث متسرّعاً وغير ناضج، ولكن بعد زمن، راجعتُ كتاب «الخصال» ووقفتُ على هذا الحديث بالذات، ووقفتُ على معناه المذهل، على أساس إنّ لغة الحديث، لغة أدبيّة فنيّة ذوقيّة، لا ترتبط بظاهرها
العامي البسيط، فلا وجه لحمل الحديث على ظاهره ما دام حمله على معنىً أدبيٍّ رفيع ممكناً فإنّ معنى الحديث : أنّ السرّ الموجود في جناح جبرئيل هو موجود في ذراعي الحسنين، وأنّ سيرتهما هي سيرة جبرئيل ! .
وهذا تعبير عن قدسيّة الحسنين في حال طفوليتهما، وإلاّ فهما في مقام الإمامة لم يبلغ جبرئيل وأمثاله من الملائكة شأوهما .
إنّ هذا التعبير بيانٌ بلاغيٌّ جميلٌ .
وكذلك القرأن الكريم مليءٌ بالتعابير الكنائيّة والأدبيّة اللطيفة، مثل قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فظاهره : أنّ الله جالس على كرسي، متربّعاً، كما يتخيّله الحنابلة هكذا !!!؟
لكن القرآن إنّما عبّر بما هو شائع في المحاورات الأدبيّة والعرفيّة، وهو كلام دالّ على رفعة المقام وقدرة الموصوف .
إنّ المتأمّل في متون الأحاديث قد يدرك المعاني اللطيفة جدّاً، ويجدها موافقة للذوق الجميل والأدب العربيّ الرائع .
إنّ أئمّتنا المعصومين (عليهم السلام) كانوا «أُمراء الكلام» كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فإنّا أُمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه» ۴  .
فكلامهم إنّما هو من روائع الأدب العربيّ، ويّتصف بالجمال الفنّي والسلاسة والآداب الرائعة .
فلو أنّ الإنسان حاول فهم كلامهم بصورة عاميّة، فإنّ المعاني سوف تنقلب، ولا يمكن أن تفسّر كلمات الأئمّة (عليهم السلام) الذين هم آيات البلاغة وأُمراء الكلام، بكذلك .
أرجو من الله أن يوفّقكم إن شاء الله، وأشكر الله على أن هيّأ لكم أساتذة
جيّدين، مع ما لديكم من استعدادات، وأتمنّى لو كانت لنا ـ أيّام الشباب ـ مثل هؤلاء الأساتذة لنستفيد منهم، وهذا ما لم يحصل مع الأسف .
إنّ مديراً شفيقاً، ومثابراً، لا يعرف الملل مثل الشيخ ري شهري، سيُتابع القضية، والحمد لله .
ونحن نشكر الله على وجودكم أنتم، وعلى وجود هؤلاء الأعزّة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

1.العدّة في أصول الفقه (۱ / ۱۵۴ ) طبع الأنصاري ـ قم ۱۴۱۷ هـ . والمشايخ هم : ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وابن أبي نصر البزنطي . قال الشيخ فيهم : سوّت الطائفةُ بينَ ما يرويه (هؤلاء) وغيرُهم من الثقات; الذين عُرِفوا بأنّهم لا يُرسلون إلاّ ممّن يُوثقُ به، وبينَ ما أسنده غيرهم; ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم .

2.اختيار معرفة الناقلين ( ص ۲۳۸ رقم ۴۳۱) و( ص ۳۷۵ رقم ۷۰۵) و( ص ۵۵۶ رقم ۱۰۵۰) من طبعة المصطفوي - مشهد .

3.الخصال ( ص ۶۷ رقم ۹۹) طبعة المدرسين ـ قم .

4.نهج البلاغة، الخطبة (۲۳۳) من طبعة صبحي الصالح (ص ۳۵۴) .

صفحه از 297