حديث التسامح في أدلّة السنن: سنداً و دلالة - صفحه 271

حديث التسامح في أدلّة السنن : سنداً و دلالةً

السيّد حسن الحسينيّ آل المجدّد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وألهم وعلّم ، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله وسلّم .
(أمّا بعد) : فإنّ فقهاء أصحابنا ومحدّثيهم ـ نفعنا الله بعلومهم ، وأفاض علينا من بركاتهم ـ قد تلقّوا الأحاديث الدالّة على التسامح في أدلّة السنن بالقبول ، وفرّعوا عليها القاعدة المشهورة عندهم في ذا الباب ـ كما هو مقرَّر في الأصول ـ ، وما زال هذا ديدنهم حتّى ظهر في عصرنا مَن شذّ بإنكاره ثبوت تلك الأحاديث ، وحكم بوضعها وبطلانها ، مدّعياً :
أنّ الغلاة والزنادقة لمّا رأوا أنّ عُبّاد الليل والنهار قد رجعوا إلى السُنّة العادلة ۱ ، ورفضوا العبادات والأدعية المخترعة ۲ زعموا ۳ لهم ۴ : «أنّ من بلغه ثواب من الله على
عملٍ فعمله رجاءَ ذلك الثواب أُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» فتمّ بهذه الأكاذيب المخترعة مكائدهم ، واغترّ بها جماعة من العلماء والمحدّثين ، بل عامّتهم ۵ ـ إلى آخر كلامه .
وهذه جُرأة عظيمة على ردّ الأحاديث الثابتة الصحيحة ، ومجازفة لا يُظنّ صدورها إلّا عن متهوّرٍ لا يدري ما يخرج من رأسه .
فلم يسعني إلّا التنبيه على زلّة هذا المدّعي ، وبيان خطئه الواضح ، وبهتانه الفاضح لئلّا يغرّ بكلامِه مَن لم يُحط علماً بحقيقة الحال .
واللهَ العليَّ العظيم نسأل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنه ، إنّهُ يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
وينبغي ـ أوّلاً ـ التنبيه على أمور :
(الأوّل) : أنّهُ لا يسوغ ردّ الحديث بمجرّد ضعف إسناده ، أو غرابة متنه ظاهراً ، فكم من حديثٍ صحيحٍ في الأصل ، ثابتٍ في نفس الأمر قد ورد من طرقٍ كثيرةٍ ، لكنّ الرادّ له لم يقف عليه إلّا من طريقٍ ضعيفٍ على حسب الاصطلاح ، فيُقدم على تضعيفه ، بل على ردّه وإنكاره قبل الفحص عن متابعاته وشواهده ، وفي ذلك خطرٌ عظيم .
ولذا قرّر العلماء أنّهُ لا يُحكم على الحديث حكماً باتّاً إلّا بعد الوقوف على جميع طرقه ومتونه ، وهذا هو الحزم الذي ينبغي الأخذ به في بيان مراتب الأحاديث والحكم عليها ، إذ قد يكون الحديث حسناً أو ضعيفاً من بعض الطرق ، لكنّه صحيح أو حسن من طريقٍ آخر أو بمجموع طرقه .
فالجزم في الحكم على الحديث بمجرّد الوقوف على بعض طرقه ، ليس من دأب أهل العلم والتحصيل .
نعم ، يجوز أن يضعّف الحديث بالإضافة إلى بعض طرقه ، فيقال مثلاً : هذا الحديث ضعيف بهذا الإِسناد ، أو يطلق القول بضعفه ويُراد به ضعف الإسناد لا المتن ، إذ قد يُروى بإسنادٍ صحيحٍ يثبت بمثله الحديث ـ كما نبّه عليه الشيخ الشهيد زين الدين العامليّ رحمه الله في (الدراية) ۶ ـ .
وقال رحمه الله : وإنّما يضعّف ـ يعني الحديث ـ بحكم إمامٍ مطّلعٍ على الأخبار ، مضطلعٍ بها ، أنّهُ لم يُرْوَ بإسنادٍ يثبت به (اهـ ) .
قلت : هذا في التضعيف ، ولا أظنّ الرجل واجداً لشرطه ، فكيف بردّ الحديث والحكم بوضعه واختلاقه ، فإنّ الشرط فيه أشدّ .
(الثاني) : لا ينبغي للناقد أن يُبادر إلى إبطال الحديث لِكَلَلٍ في فهمه ، وقصور باعه عن بلوغ كُنهه ومعرفة مدلوله ، كما اتّفق لصاحب الدعوى إذ ظنّ ـ والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ـ أنّ في أحاديث الباب نكارة ، فرّدها لأجل ذلك! فإنّه جهد العاجز .
ولو كان قد وقف على شرحها واطّلع على فقهها في كتب الأصحاب ، كشرح الأربعين لشيخ الإسلام بهاء الدين العاملي رحمه الله وشرحَي الكافي للموليين المجلسي والمازندراني رحمهما الله ، وغيرهما من كتب الأصول والرسائل المصنَّفة في قاعدة (التسامح في أدلّة السنن والمكروهات) لما تجرّأ على أن ينبس ببنت شفة ، ولرأى فيها ـ بأُمّ عينيه ـ القولَ الفَصْلَ في تزييف شبهته الزائفة وتفنيدها .
وليته ـ إذ لم يفعل ذلك ـ أحجم عن التقوّل في هذا الحديث ، وتريّث وتبيّن حتّى يظهر له الحقّ جليّاً ، أو توقّف فيه وردّ علمه إليهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كما أمرونا بذلك ، فإنّهُ أسلم وأوفق بمنهج المتشرّعة وأهل الدين .
أخرج البرقيّ في (المحاسن) ۷ عن محمّد بن إسماعيل ، عن جعفر بن بشير ، عن
أبي بصير ، عن أبي جعفرعليه السّلام ، أو عن أبي عبدالله عليه السّلام قال : لا تكذّبوا الحديث إذا أتاكم به مرجئ ، ولا قدريّ ، ولا حروريّ ينسبه إلينا ، فإنّكم لا تدرون لعلّه شي ء من الحقّ ، فيكذّب الله فوق عرشه .
وأخرج الصفّار في (بصائر الدرجات) ۸ قال : حدّثنا أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، عن أبي جعفرعليه السّلام قال : سمعته يقول : أما والله إنّ أحبّ أصحابي إليَّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم إليَّ الذي إذا سمع الحديث يُنسب إلينا ، ويُروى عنّا فلم يعقله ولم يقبله قلبه اشمأزّ منه وجحده وكفر بمن دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج ، وإلينا أُسند ، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا .
وقال أيضاً : حدّثنا الهيثم النهديّ ، عن محمّد بن عمر بن يزيد ، عن يونس ، عن أبي يعقوب بن إسحاق بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى حصر عباده بآيتين من كتابه : ألّا يقولوا حتّى يعلموا ، ولا يردّوا ما لم يعلموا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلّا الحقّ)وقال : (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله) .
وأخرج الإمام الكلينيّ رحمه الله في (الكافي) ۹ عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن محمّد بن سنان ، عن عمّار بن مروان ، عن جابرٍ قال : قال أبو جعفرعليه السّلام : قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب ، لا يؤمن به إلّا مَلَك مقرَّب ، أو نبيّ مرسَل ، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمّدصلّى الله عليه و آله و سلّم فلانَتْ له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزّت منه قلوبكم وأنكرتموه فردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل
محمّد ، وإنّما الهالك أن يُحدَّث أحدكم بشي ء منه لا يحتمله ، فيقول : والله ما كان هذا ، والله ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر .
وروى الصفّار نحوه في (بصائر الدرجات) ۱۰ .
وأخرج في (البصائر) ۱۱ أيضاً قال : حدّثنا محمّد بن الحسين ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو جعفرعليه السّلام : حديثنا صعب مستصعب ، لا يؤمن به إلّا مَلَك مقرَّب ، أو نبيّ مرسَل ، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، فما عرفت قلوبكم فخذوه ، وما أنكرت فردّوه إلينا (اهـ ) .
هذا هو المقرَّر عند كُبَراء أئمتنا وجهابذة علمائنا رضي الله تعالى عنهم أجمعين (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .
(الثالث) : أنّ الحديث إذا اشتهر بين الأصحاب ، وروي من طرق شتّى ، وخُرّج في الأصول المجمع عليها وفي كتب متعدّدةٍ معتمدة من كتب الثقات ، وشاع العمل بمضمونه عند جمهور أصحابنا ، ولم ينفرد به متَّهم ، فإنّ ذلك كلّه قرينة قويّة على ثبوته وصدوره عن قائله عليه الصلاة والسلام .
ومن ذلك حديث الباب ، فإنّ جُلّ أصحابنا ـ إن لم يكن كلّهم عند التحقيق ـ قد أخذوا به وبَنَوا عليه قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، وليس مستندهم فيها سوى هذه الأحاديث ، وكلٌّ منهم أعلم بالحديث ووجوهه من مائة ألفٍ من مثل هذا المدّعي لمعرفة الحديث .
فالتجرّؤ على ردّ مثل هذا الحديث الثابت ، تهوّر لا يصدر إلّا ممّن لا ناقة له في علم الحديث ولا جَمَل ، والردّ بمجرّد تخيّل فاسد لا يليق بمن نصب نفسه لنقد الحديث وتصدّى ـ بزعمه ـ لجمع صحيح الكافي وغيره .
وظنّي أنّهُ لو كان وقف على الفائدتين السادسة والثامنة من فوائد خاتمة (الوسائل) لما اقتحم هذه المهالك ، ولا أناخ مطيّة جهله في هاتيك المسالك ، والله العاصم .
وبالجملة : فما كان الأئمة النقّاد ، ولا الجهابذة الأفراد من الأصحاب ليجتمعوا على ضلالةٍ ـ والعياذ بالله ـ ولا يتّفقوا على حديث خفي حاله عليهم ـ وهُمُ هُمُ ـ ثمّ يظهر لمن لم يبلغ عُشر معشارهم في العلم ما حُجب عن ثاقب نظرهم ، وعزب عن صائب فكرهم، حتّى يتجرّأ على قذف عامّتهم بالاغترار بأكاذيب الغلاة والزنادقة!!! ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ .
فليس ردّ الحديث بالتشهّي ولا بخواطر شيطانيّة قد تخطر على القلب فتحمل صاحبه على التفوّه بما لا ينبغي ، بل إنّ من يَطعن في الثوابت المسلَّمات يُطعن عليه ويفتضح لا محالة ، وذلك شأن من لم يمارس علوم الحديث ولم يستحكم أمره في معرفة المتون والأسانيد ، واعتبار المتابعات والشواهد ، ولقد أجاد مَن قال :
لو كان هذا العلم يُدرك بالمُنى-ما كنتَ تبصر في البريّة جاهلا
إذا تقرّر ما ذكرنا ، فلنعرّج على سرد أحاديث الباب ، ولنتكلّم عليها بما يفتح الله تعالى به علينا ، وهو خير الفاتحين .
اعلم : أنّ تلك الأحاديث تنتهي طرقها إلى أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام :

1.متى كانوا قد حادوا عنها حتّى رجعوا إليها ـ وهم أهل القرون المفضَّلة ـ؟

2.هذا أوّل الكلام ، فمن أين ثبت لك أيّها الطاعن أنّها كانت مخترعة؟

3.بئس مطيّة الرجل «زعموا» .

4.في أيّ زمنٍ كان هذا الزعم؟

5.مقدّمة صحيح الكافي ج۱ صحيفة (ط) .

6.ص۶۰ ، ط . مطبعة النعمان ـ النجف الأشرف .

7.ص۲۳۰ ـ ۲۳۱ .

8.ص۵۳۷ ـ باب «في من لا يعرف الحديث فردّه» وكذا الحديث الذي بعده .

9.۱/۴۰۱ .

10.بصائر الدرجات ص۲۲ .

11.ص۲۱ ، وراجع مختصر بصائر الدرجات للحليّ ص۷۶ و۹۲ و۹۶ ، كنز العمّال : ۱۰/۲۳۶ و۱/۱۹۵ ، مجمع الزوائد : ۱/۱۴۷ .

صفحه از 289