97
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

السبب الثاني ـ اختلاف سياسة بني العبّاس تجاه الشيعة:

شهد عصر الكليني ـ بسبب كثرة الانتفاضات والثورات الشيعية من جهة، وضعف السلطة العبّاسية من جهة اُخرى ـ محاولة بعض خلفاء بني العبّاس نبذ سياسة العنف والاضطهاد وملاحقة الشيعة، واستبدالها بسياسة اُخرى تهدف إلى امتصاص النقمة الشيعية بتقريب العلويين في ظاهر الحال مع الكيد لهم في الخفاء، اقتداءً بسياسة مأمونهم العبّاسي الذي أعطى ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام ، وردّ فدكا إلى العلويين، ولبس لباسهم (الخضرة) وترك لباس العبّاسيين (السواد). ثمّ لم يلبث هكذا لعنه اللّه حتى سمّ الإمام الرضا عليه السلام ، ورجع إلى لبس السواد.
ولا يعني هذا أنّ السياسة العبّاسية في عصرها الثاني قد تحوّلت برمّتها إلى هذااللون المخادع، بل بقي أكثرهم ملازما العنف والاضطهاد والقتل والتشريد كوسيلة لتصفية الخصوم، مع وجود من كان صادقا في سياسته الجديدة مع العلويين وهو المنتصر باللّه فحسب. ممّا انعكس هذا على مجمل نشاط الشيعة الثقافي والفكري سلبا أو إيجابا بحسب مواقف السلطة وتلوّن سياستها تجاههم.
ومن متابعة تاريخ بني العبّاس في عصرهم الثاني يعلم بقاء سياسة العنف والاضطهاد والقتل والتنكيل قائمة في زمان المتوكّل (232 ـ 247 ه )، والمستعين (248 ـ 252 ه )، والمعتزّ (252 ـ 255 ه )، والمهتدي (255 ـ 256 ه )، والمعتمد (256 ـ 279 ه )، والمكتفي (289 ـ 295 ه )، والمقتدر (295 ـ 320 ه )، والقاهر (320 ـ 322 ه ).
في حين تلاشت في زمان المنتصر (247 ـ 248 ه )، وخفّت في زمان المعتضد (279 ـ 289 ه )، والراضي (322 ـ 329 ه )، والمتّقي (329 ـ 333 ه ) الذي انتهى العصر العبّاسي الثاني بنهايته.
وبيان دليل بقاء سياسة العنف والاضطهاد عند من ذكرناه يخرجنا عن أصل الموضوع، إذ يمكن تلمّسه بكلّ وضوح من خلال الانتفاضات الشيعية الحاصلة بأزمانهم كما في سائر كتب التاريخ، ومصارع العلويين على أيديهم كما فصلها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين.
وما يعنينا هنا هو دليل التحوّل السياسي الذي تنفّس من خلاله الشيعة في زمان المنتصر، والمعتضد، والراضي، والمتّقي.
أمّا المنتصر، فمن غيرته على الإسلام أنّه قتل أباه المتوكّل لعنة اللّه تعالى عليه، غضبا منه للّه تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه و آله ، إذ سمع أباه اللا متوكّل قبَّحه اللّه يسبّ فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليهاالسلام، فسأل من بعض الفقهاء فقال له: أبحت دمه.
فدخل عليه مع بعض الأتراك فقتله مع وزيره ابن خاقان في مجلس لهوهما ۱ .
قال السيوطي: وكان المنتصر محسنا للعلويين، وصولاً بهم، وأزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام ، وردّ على آل الحسين عليهم السلام فدكا ۲ .
وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : «وكان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت، ويخالف أباه في أفعاله، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا» ۳ .
وقال أبو الفداء: «أمر الناس بزيارة قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما، وأمَّن العلويين، وكانوا خائفين أيّام أبيه» ۴ .
وفي تاريخ الطبري: إنّ المنتصر لما ولي الخلافة كان أوّل شيء أحدث من الاُمور عزل صالح بن علي عن المدينة وتولية علي بن الحسين بن إسماعيل بن العبّاس بن محمّد عليها.
قال الطبري: «فَذُكِر عن علي بن الحسين أنّه قال: دخلت عليه أُودّعه، فقال لي: يا علي إنّي أُوجّهك إلى لحمي ودمي، ومدّ جلد ساعده وقال: إلى هذا وجّهتك، فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم، يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم إن شاء اللّه ، فقال: إذا تسعد بذلك عندي» ۵ .
وأمّا المعتضد، فقد اتّصف بالتسامح مع العلويين، وقد ذكر المسعودي أنّه وردت أموال من محمّد بن زيد من بلاد طبرستان لتفرّق في آل أبي طالب سرّا، فغُمِز بذلك إلى المعتضد، فأُحضِرَ الرجل الذي حمل تلك الأموال، فأنكر عليه المعتضد إخفاءها، وأمره بتوزيعها علنا، وقرَّب آل أبي طالب، وكان السبب في ذلك ما قاله المعتضد نفسه أنّه قبل تولّيه السلطة رأى في منامه أمير المؤمنين الإمام عليّا عليه السلام وهو يقول له: «إنّ هذا الأمر صائر إليك فلا تتعرّض لولدي ولا تؤذهم. قال، فقلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين» ۶ .
كما أنّ المعتضد نفسه أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية ، فأخذ من جوامعه وأمر أن يُقرأ على الناس، وهو كتاب طويل ذكره الطبري بتمامه وأشار إليه آخرون، وفيه تفصيل فضائح بني اُمية وآل مروان، وقد جاء فيه ما هذا نصّه:
«اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وَوُلْده، اللهم العن أئمّة الكفر، وقادة الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول صلى الله عليه و آله ، ومغيّري الأحكام، ومبدّلي الكتاب، وسفاكي الدم الحرام..». ثمّ ذكر الطبري تدخّل أحد النواصب من عشّاق الشجرة الملعونة في عدم إمضاء هذا الكتاب الذي هو أشرف كتب بني العبّاس قاطبة، فخوّف المعتضد من ميل الناس إلى العلويين لأنّه فيه ثناء على أهل البيت عليهم السلام ، وشبه هذا الكلام، فأمسك المعتضد ۷ ومنه يُعلم عدم صدقه فيما عزم عليه، ويتّضح لنا هدف سياسته من كلّ ذلك.
وأمّا الراضي باللّه (322 ـ 329 ه ) فقد ذكر الصولي في أخبار الراضي بأنّه قد ذُكر إلى الراضي بأنّ الإمامية يحملون الأموال إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي رضى الله عنه، فكان لا ينكر ذلك ولا يوليه اهتماما مع الإعراب عن رغبته في افتقار الشيعة بدفع أموالهم إلى الحسين بن روح رضى الله عنه ۸ .
وهذا ما يشير إلى كونه في سياسته كسابقه المعتضد.
وفي زمان الراضي بنى الأمير بجكم مسجد الشيعة المعروف بمسجد براثا في الجانب الشرقي من بغداد ۹ بعد ما هدّمه السفيه المقتدر باللّه (295 ـ 320 ه ) بتحريض من الحنابلة ۱۰ .
ونظير موقف الراضي ما فعله المتّقي من تأديب الحنابلة على مضايقتهم للشيعة ببغداد من خلال محاولاتهم هدم مسجد براثا، حتى أنّه أخذ قوما منهم فأدّبهم بالضرب، وأمر ابن جعفر الخيّاط بحفظ المسجد، وأن يضرب عنق كلّ من تعرّض لهدمه ۱۱ .
وصفوة القول، أنّه إذا كان أحد يستحقّ الترحّم عليه من ملوك بني العبّاس في عصرهم الثاني، فهو المنتصر ـ رحمه اللّه ـ لا غير، وللأسف أنّه لم تطل أيّام خلافته إذ حكم ستّة أشهر ويومين فقط كما تقدّم.

1.. الأمالي للطوسي : ص ۳۲۸ ح ۶۵۵ (۱۰۲) مجلس ۱۱، المناقب لابن شهرآشوب : ج ۳ ص ۲۲۱.

2.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۸۵ .

3.. مقاتل الطالبيين : ص ۵۰۴ .

4.. تاريخ أبي الفداء : ج ۱ ص ۳۵۶.

5.. تاريخ الطبري : ج ۱۱ ص ۸۱ .

6.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۲۷۰ ـ ۲۷۱.

7.. تاريخ الطبري : ج ۱۰ ص ۵۵ ـ ۶۳ في حوادث (سنة / ۲۸۴ ه )، مرآة الجنان وعبرة اليقظان : ج ۲ ص ۱۵۰ ـ ۱۵۱، تاريخ أبي الفداء : ج ۱ ص ۳۷۹، تاريخ الخلفاء : ص ۲۹۷.

8.. أخبار الراضي والمتّقي : ص ۱۰۴ في حوادث (سنة / ۳۲۶ ه ) .

9.. المصدر السابق : ص ۱۳۶ في حوادث (سنة / ۳۲۷ ه ).

10.. تاريخ بغداد : ج ۱ ص ۱۲۴، أخبار الراضي والمتّقي : ص ۱۳۶ في حوادث (سنة / ۳۲۷ ه ).

11.. أخبار الراضي والمتّقي : ص ۱۹۸.


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
96
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 292698
صفحه از 532
پرینت  ارسال به