327
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

منهج الكليني في أسانيد الكافي:

اختلف المنهج السندي في كتاب الكافي اختلافا كلّيا عن المنهج السندي في كتاب من لا يحضره الفقيه وكتابي التهذيب والاستبصار ، إذْ سَلَكَ كلّ من المحمّدين الثلاثة طريقا يختلف عن الآخر في إسناد الأحاديث.
فالصدوق حذف أسانيد الأحاديث التي أخرجها في كتابه (الفقيه) لأجل الاختصار، ولم يُسند في متن الكتاب غير تسعة أحاديث فقط ۱ بحسب ما استقرأناه. وقد استدرك على ما رواه بصورة التعليق بمشيخةٍ في آخر الكتاب أوصل بها طرقه إلى أغلب مَنْ روى عنهم في الفقيه لتخرج مرويّاته عن حدّ الإرسال.
وأمّا الشيخ الطوسي فقد سلك في منهجه السندي في التهذيب والاستبصار تارةً مسلك الشيخ الكليني الآتي، واُخرى مسلك الشيخ الصدوق في كتابه الفقيه ، وذلك بحذف صدر السند والابتداء بمن نقل من كتابه أو أصله، مع الاستدراك في آخر الكتابين بمشيخةٍ على غِرار ما فعله الشيخ الصدوق.
وأمّا الكليني: فقد سلك في كتابه الكافي منهجا سنديا ينمُّ عن قابليّة نادرة وتتبّع واسع وعلمٍ غزير في متابعة طرق الروايات وتفصيل أسانيدها، إذْ التزم بذكر سلسلة سند الحديث إلّا ما نَدَرَ، مع ملاحظة اُمور كثيرة في الإسناد.
منها: اختلاف طرق الرواية، فكثيرا ما تجده يروي الرواية الواحدة بأكثر من إسنادٍ واحدٍ، وإذا لوحظت أخبار الكافي بلحاظ تعدّد رواتها، فإنّك تجد فيه تعدّد رواة الخبر في طبقات السند، بحيث تجد الكثير من الأسانيد قد تحقّقت فيها الاستفاضة أو الشهرة ۲ في بعض مراتبها كروايته «عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، والحسين بن محمّد، عن عبد ربّه وغيره، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد جميعا؛ عن ...» ۳ .
وكذلك نجد الخبر العزيز ۴ في بعض المراتب أيضاً، كروايته عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان. وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى ۵ ، وهنا قد تحقّق الخبر العزيز بثلاث طبقات، إذ نقله الكليني عن اثنين، عن اثنين، عن اثنين.
هذا وقد يعدل الكليني أحيانا عن هذا المنهج عند توافر أكثر من طريق واحد للرواية ، وذلك بذكر سند الطريق الأوّل ثمّ يعقّبه بعد هذا بالطريق الثاني ذاكرا في نهايته عبارة: «مثله». إشارة منه إلى تطابق المتن في كلا الطريقين. وهو من أوضح مصاديق الخبر العزيز في الكافي ۶ .
ومن الاُمور التي تلاحظ على منهجه السندي أنّه كثير ما يرد في أسانيد الكافي ذكر كُنى الرواة وبلدانهم وقبائلهم وحِرَفِهم، أمّا حذف الاسم والاكتفاء بما يدلّ عليه من كنية أو لقب ، فلا يدلّ على التدليس كما قد يتوهّمه الجاهل؛ لأنّ الحذف لم يكن من الكليني تعمّدا بل من مشايخه الذين كانوا يكنّون مشايخهم تقديرا لهم، لما في إطلاق الكنية من معاني الاحترام، وقد عرف العرب بالتكنية ولهم في الاعتداد بها طرائف كثيرة ليس هنا محلّ تفصيلها. غاية الأمر أنّ ما ينسب إلى الكليني وهو في الواقع إلى مشايخه إنّما باعتبار التدوين بعد الاختيار.
إذن، نسبة جميع ما يرد في الإسناد ؛ من ألفاظ وإن كانت مجهولة أحيانا مثل: عن شيخ، أو عن رجل ونحو ذلك، إنّما ينسب إلى الكليني بهذا الاعتبار، لا أنّه تعمّد إخفاء الاسم والتعبير عنه بمثل هذه الألفاظ كما قد نجده عند بعض المهرّجين الأغبياء الذين لم يلتفتوا إلى حقيقة هذا المقصد.
وهناك مفردات اُخرى في المنهج السندي في كتاب الكافي نشير إلى بعضها اختصارا:
منها: الالتزام بالعنعنة في الإسناد كبديل مختصر عن صيغ الأداء الاُخرى التي وردت في الكافي بصورة أقلّ من العنعنة.
ومنها: الأمانة العلميّة في التزام نقل ألفاظ مشايخ السند، ومثاله نقله حتّى لتردّد الرواة في التحديث عن مشايخهم بلفظ (حدّثني فلان، أو روى فلان) ۷ .
أو التصريح بما أرسله بعض المشايخ، أو رفعه ۸ .
ومنها: اختصار سلسلة السند المتكرّر بعبارة: (وبهذا الإسناد) ۹ ، أو حذف تمام السند المتكرّر والاكتفاء بالعبارة المذكورة ۱۰ .
ومنها: تنوّع مصادر السند في الكافي، بحيث يمكن تصنيفها على طائفتين رئيسيّتين، وهما: الرجال، والنساء الراويات، والرجال إلى معصومين وغيرهم، وهذا الغير إلى صحابة وتابعين وغيرهم، وقد جاءت مرويّاتهم لتتميم الفائدة، وبعضها الآخر لبيان وجه المقارنة بينها وبين مرويّاته الاُخرى.
ويمكن تقسيم الطائفة الاُولى إلى الموافق والمخالف في المذهب؛ لوقوع الكثير من رواة الفِرَق المخالفة لمذهب الكليني في أسانيد الكافي كما بيّناه في محلّه ۱۱ وأشرنا إلى من رجع منهم إلى الحقّ إشارتين، إحداهما: جملةً، والاُخرى تفصيلاً ۱۲ .
وأمّا النساء الراويات فقد بلغن ستّا وعشرين امرأة فيما تتبّعناه. ومنها: وجود الأحاديث الموقوفة ۱۳ ، والمرسلة ۱۴ ، والمجهولة وهي التي في إسنادها راوٍ لم يُسَمّ، وتسمّى المبهمة، وحكمها الإرسال جميعا ۱۵ ، كذلك وجود الأحاديث المضمرة ۱۶ ، مع توافر بعض الأصناف الاُخرى لخبر الواحد المسند، كلّ صنف بلحاظ عدد رواته تارةً ـ وهو ما ذكرناه آنفا ـ أو بلحاظ حال رواته، أو بلحاظ اشتراك خبر الواحد المسند مع غيره كالمعنعن ـ كما مرّ ـ والمسلسل ۱۷ ، والمشترك ۱۸ ، والعالي، والنازل ۱۹ ، والمعلّق بشرط معرفة المحذوف.
ومنها: تعبير الكليني عن مجموعة من مشايخه بلفظ: (عدّة من أصحابنا) أو جماعة من أصحابنا والأوّل مطّرد، والآخر نادر، وقد مرّ البحث عن هذا مفصّلاً.

1.. كتاب من لا يحضره الفقيه : ج ۱ ص ۳۱۵ ح ۱۴۳۱ باب ۷۶ ، و ج ۲ ص ۱۵۴ ح ۶۶۸ باب ۶۳، و ص ۲۱۱ ح ۹۶۷ باب ۱۱۵، و ج ۳ ص ۶۱ ح ۲۱۱ باب ۴۶، و ص ۶۲ ح ۲۱۲ باب ۴۶، و ص ۶۵ ح ۲۱۸ باب ۴۷، و ج ۴ ص ۱۶۵ ح ۵۷۸ باب ۱۱۵، و ص ۲۷۳ ح ۸۲۹ باب ۱۷۶، و ص ۳۰۱ ح ۹۱۱ باب ۱۷۶ .

2.. الخبر المستفيض أو المشهور، هو من أقسام خبر الآحاد المسند باعتبار عدد رواته. وعرّفوه بأنّه: ما زادت رواته على ثلاثة أو اثنين في كل مرتبة من مراتب السند من أوّله إلى منتهاه، ويسمّى بالمشهور أيضا، وقد يغاير بينهما على أساس تحقّق الوصف المذكور في المستفيض دون المشهور؛ لأنّه أعم من ذلك كحديث «إنّما الأعمال بالنيّات»، فهو مشهور غير مستفيض، للانفراد في نقله ابتداءً وطرو الشهرة عليه بعد ذلك. اُنظر: الدراية: ص ۳۲، ومقباس الهداية : ج ۱ ص ۱۲۸، ونهاية الدراية: ص ۱۸۸.

3.. فروع الكافي : ج ۴ ص ۲۰۱ ح ۱ باب ۷ من كتاب الحجّ، وكثير مثله.

4.. الخبر العزيز : هو ما يرويه اثنان من الرواة عن اثنين ، وصولاً إلى المعصوم عليه السلام . اُنظر: الدراية : ص ۱۶ ، ومقباس الهداية : ج ۱ ص ۱۳۴ .

5.. فروع الكافي : ج ۳ ص ۲ ح ۱ باب ۲ من كتاب الطهارة.

6.. أغلب الأحاديث التي لم ترقّم في طبعات الكافي كما سنبيّنها في جدولتها في آخر البحث، هي من الأحاديث العزيزة المروية بطريقين مختلفين ، ابتداءً من الكليني وانتهاءً بالمعصوم عليه السلام .

7.. فروع الكافي : ج ۶ ص ۸۱ ح ۸ باب ۲۱ من كتاب الطلاق.

8.. ومثال التصريح بالإرسال تجده في فروع الكافي : ج ۶ ص ۳ ح ۶ باب ۱ من كتاب العقيقة، و ج ۶ ص ۴۰۶ ح ۲ باب ۲۰ من كتاب الأشربة، ومثال التصريح بالرفع تجده في اُصول الكافي : ج ۱ ص ۵۸ ح ۳، و ص ۶۸ ح ۱۳، و ص ۷۴ ـ ۷۵ ح ۲۸ ـ ۳۰ من كتاب العقل والجهل .

9.. اُصول الكافي : ج ۱ ص ۱۰۵ ح ۳ و ۴ باب ۱۹ من كتاب فضل العلم.

10.. فروع الكافي : ج ۳ ص ۵ ح ۲ باب ۴ من كتاب الطهارة.

11.. اُنظر: الشيخ الكليني البغدادي وكتابه الكافي ـ الفروع: ص ۲۰۳ .

12.. المصدر السابق : ص ۲۰۳ ونعني بالإشارة جملةً هو ما ذكرناه تحت عنوان (رواة الفرق المخالفة لمذهب الكليني) إذ ورد هناك ما نصّه: «روى الكليني عن رواة الفرق المخالفة لمذهبه، سواء منهم مَنْ ثبت على رأيه مع بقائه على صدقه ووثاقته، أو عمّن رجع عن رأيه وحمدت سيرته» ثمّ ذكرت جملة منهم، وقد ترجمنا لهم جميعا في فصل الموارد مع بيان من رجع منهم إلى الحقّ باعتراف أعلام الشيعة، وهذا هو المراد بالإشارة تفصيلاً، وإنّما ذكرنا هذا ليتّضح كذب بعضهم بأنّي لم أُفرِّق في كتابي المذكور بين من رجع إلى الحقّ وبين من لم يرجع منهم! فراجع.

13.. الحديث الموقوف، هو ما روي عن أحد أصحاب المعصوم عليه السلام من دون أن يسنده إليه، ويسمى الموقوف المطلق، ومثاله ما ورد عن معاوية بن عمّار وابن أبي عمير وغيرهما موقوفا عليهم في فروع الكافي : ج ۶ ص ۱۶۰ ح ۳۳ باب ۷۳ من كتاب الطلاق، و ج ۷ ص ۲۴ ح ۳ باب ۱۸ من كتاب الوصايا.

14.. المرسل : هو ما حذف من سلسلة سنده راوٍ واحد أو أكثر، وكذا لو ذكر أحد رجال السند بلفظ مبهم، وله تعاريف اُخرى، راجع: الدراية : ص ۴۷، ونهاية الدراية : ص ۱۸۹ ، ومقباس الهداية : ج ۱ ص ۳۳۸، ومثاله في اُصول الكافي : ج ۱ ص ۲۰۹ ح ۱ باب ۳۰ من كتاب التوحيد، وغيره .

15.. مثل: عمّن رواه، أو عمّن حدّثه، أو عمّن أخبره، ونحو ذلك من الألفاظ الاُخرى نحو: عن رجل، أو عن شيخ، وهكذا في كل لفظ مبهم، والحكم في الجميع هو الإرسال. كما في مقدّمة ابن الصلاح : ص ۱۴۴، والرواشح السماوية : ص ۱۷۱، ومن طريف ما حصل في (بحوث حول روايات الكافي) فهم صاحبه أنّ القول بوجود أسانيد مجهولة في الكافي ، يعني نسبة الجهل للكليني!!!

16.. المضمر: هو الحديث الّذي اُخفي فيه المسؤول ولم يُعْرَف هل هو إمام أو غيره؟ كرواية الكليني بسنده عن أسباط بن سالم قال: «سأله رجل من أهل هيت، وأنا حاضر ... الخبر» (اُصول الكافي : ج ۱ ص ۳۳۲ ح ۲ باب ۵۶ من كتاب الحجّة) .

17.. الحديث المسلسل: هو ما اتّفق الرواة فيه على صفةٍ واحدة أو حال معيّنة ، ومن أمثلته في فروع الكافي : ج ۳ ص ۴۹۳ ح ۸ باب ۱۰۲ من كتاب الصلاة، وانظر تعريفه في الدراية : ص ۳۸.

18.. المشترك: هو ما كان أحد الرواة فيه مشتركا بين الثقة وغيره تارةً، وبين الثِقات فقط تارةً اُخرى، وفي الحالة الاُولى لابدّ من تمييزه، بخلاف الحالة الثانية، (مقباس الهداية : ج ۱ ص ۲۸۸). ومثال مشتركات الكافي من الحالة الاُولى ما رواه عن محمّد بن إسماعيل المشترك بين الثقة وغيره، وقد ميّزوه بالنيسابوري ورواياته كثيرة في الكافي ، ومثال الثانية ما رواه عن محمّد بن جعفر وهو مشترك بين الثقات كالرزّاز والأسدي، ورواياته في الكافي كثيرة أيضا.

19.. العالي والنازل: من أوصاف الخبر المشترك مع غيره، ويراد بالأول، ما كان قليل الواسطة من المحدّث إلى المعصوم عليه السلام ، والثاني بخلافه، ويسمّى الأول (قرب الإسناد) أو (علوّ الإسناد). اُنظر مقباس الهداية : ج ۱ ص ۲۴۳ ـ ۲۴۴، ولا يشترط في علوّ الإسناد عدد معيّن من الرواة، فقد يكون سند الخبر عاليا مع أنّه من خمسة رواة وذلك بالقياس إلى متن ذلك الخبر نفسه المروي بسبع وسائط قبلاً، وأمثلة قرب الإسناد كثيرة في الكافي وتعرف بالتتبّع والمثابرة.


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
326
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 289550
صفحه از 532
پرینت  ارسال به