137
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

خامسا ـ نشأته وتربيته، وعقبه، وأصله:

لقرية كُلَيْن الفضل الكبير في احتضان ثقة الإسلام الكليني، وتقديمه للاُمّة عالما، ومجدّدا، وثقة ثبتا، وحقّ لها ـ وهي تلك القرية الصغيرة ـ أن تفتخر بالكليني على حواضر العلم والدين واُمّهات المدن في بلاد الإسلام.. وحسبها شرفا أن يكون أهمّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة لواحد من أعلامها.
لقد نشأ شيخنا الجليل محمّد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي السلسلي البغدادي في تلك القرية الصغيرة، وانتسب إليها، فكان أشهر أعلامها في تاريخها الطويل (القديم والمعاصر). وعاش طفولته في بيت جليل أبا واُمّا وأُخوة وأخوالاً، وتلقّى علومه الاُولى من رجالات العلم والدين من أهل تلك القرية، لاسيّما من اُسرته كما سنرى بعد قليل.
ويبدو أنّ لتلك القرية ثقلاً علميا معروفا في ذلك الحين؛ إذ خرّجت عددا من الأعلام لا زال ذكرهم يتردّد في كتب الحديث والرجال، كإبراهيم بن عثمان الكليني، وأبي رجاء الكليني، وعلي بن يحيى بن زيد الكليني، راوي كتاب إسحاق بن بشر، أبي حذيفة الكاهلي ۱ ، ومحمّد بن صالح بن عبداللّه ، أبي جعفر الكليني الحافظ، من طبقة مشايخ ثقة الإسلام الكليني، روى عن عبدالرزاق الصنعاني بواسطة واحدة ۲ ، وغيرهم ممّن كان لهم دور كبير في مجمل نشاط الحركة الثقافية والفكرية في تلك القرية لاسيّما مشايخ الكليني وتلامذته من أهل تلك القرية التي استمرّ عطاؤها بعد عصر الكليني أيضا، إذ خرّجت طائفة جليلة من المحدّثين والفقهاء، وقد أشار إلى بعضهم الشيخ منتجب الدين في فهرسته ۳ .
وإذا ما وقفنا على من برز من اُسرة الكليني وأخواله، علمنا أنّه لم يفتح عينيه على محيط مغمور ثقافيا، وإنّما توفّرت له في محيطه واُسرته الأسباب الكافية لأن تكون له ـ منذ نعومة أظفاره ـ نشأة صالحة أهّلته في أوان شبابه لأن يتفوّق على أقرانه، ثمّ لم يلبث الأمر هكذا إلى أن اشتهر في بلاد الريّ ، وصار فيها ـ بنظر الكلّ ـ الرجل الكفوء القادر على تلبية حاجاتهم العلمية في تأليف كتاب عديم النظير، ومن هنا وُلد الكافي الشريف الذي أشرقت شمس فصوله الاُولى من كلين، فما أجدر تلك القرية بالتبجيل والتكريم سيّما ونحن على أبواب مرور ألف ومائة سنة على الرحلة الأبدية لابنها العظيم ثقة الإسلام ۴ .
وممّا لا شكّ فيه أنّ لاُسرة الكليني دورها الكبير في بناء شخصية مولودها الجديد وتوجيه طاقاته وتنميتها بما يخدم الاُمّة.
وإذا ما عدنا إلى تلك الاُسرة الفاضلة، نجد أباه الشيخ يعقوب بن إسحاق الكليني رحمه الله من رجالات تلك القرية المشار لهم بالبنان ۵ ، ولعلّ في بقاء قبره الشريف إلى الآن في تلك القرية، وصيرورته مزارا لأهلها وغيرهم، ما يشهد بفضله ونبله.
وأمّا اُمّ الكليني، فهي امرأة جليلة فاضلة بلا شكّ ولا شبهة؛ حيث تلقّت تربية حسنة، وعاشت حياتها ـ قبل انتقالها إلى الشيخ الجليل يعقوب بن إسحاق ـ في بيت من بيوتات الإمامية المعروفة في تلك القرية، وهو البيت المشهور ببيت علّان الذي خرَّج جملة من أعلام كلين لاسيّما في مجالات الحديث وروايته وحفظه، ولازال صدى بعضهم يسمع في البحوث الحديثية والرجالية معا.
ومن أعيان هذه الاُسرة في كلين، جدّها الأعلى أبان الكليني الرازي الذي خُلِّد اسمه من خلال أولاده وأحفاده.
ويأتي في طليعتهم ولده إبراهيم بن أبان الكليني الملقّب بعلّان، وبهذا اللقب عرف أولاده وأحفاده، حيث أعقب ولدين وهما :
أحمد بن إبراهيم بن أبان الكليني، قال الشيخ الطوسي في ترجمته: «خيّر فاضل من أهل الريّ» ۶ وهو عمّ اُمّ الكليني .
ومحمّد بن إبراهيم بن أبان الكليني، وهو أبوها، جدّ ثقة الإسلام الكليني لاُمّه، مدحه العلماء بالخيرية ۷ والفضل ۸
، الذي أعقب عليّا الرجل المشهور.
ترجم له النجاشي قائلاً: «علي بن محمّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، المعروف بعلّان، يكنّى أبا الحسن، ثقة، عين، له كتاب أخبار القائم عليه السلام » ۹ ، ووثّقه علماء الإمامية جميعا.
وهو أخو اُمّ ثقة الإسلام الكليني.
وقد ذكره النجاشي في ترجمة الكليني مصرّحا بأنّه خال محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله ۱۰ ؛ فهو إذن خال الكليني واُستاذه؛ لأنّه من رجال عِدّة الكافي الذين روى عنهم الكليني، عن سهل بن زياد، فضلاً عمّا رواه عنه منفردا لاسيّما في اُصول الكافي، وقد قُتل علّان هذا وهو في طريقه إلى مكّة المكرّمة قاصدا أداء فريضة الحج، وكان قد استأذن من إمام العصر المهدي عليه السلام لهذا الغرض فخرج توقّف عنه في هذه السنة، فخالف، فَقُتِل، كما في ذيل ترجمته في رجال النجاشي .
وقد أغرب صاحب كتاب (الكليني والكافي) من جهتين في ترجمته:
إحداهما: في زعمه بأنّ الكليني لم يكثر من الرواية عنه! وهو أمر عجيب إذ كيف لم يكثر من الرواية عنه وهو من رجال عِدّة الكافي عن سهل بن زياد التي بلغت مواردها في الكافي أكثر من ألف مورد؟!
والاُخرى: في تعجّبه من توثيق النجاشي مع تلك المخالفة منه في مسألة الخروج إلى الحج، ولم يع الوجه في ذلك، فظنّ منافاة التوثيق للخروج إلى الحجّ بعد المنع منه! ولم يلتفت إلى أنّ التوثيق الرجالي أعمّ من هذه الاُمور، كما هو بيِّن من توثيقاتهم لبعض من انحرف عن أئمّة الهدى عليهم السلام ، نظير توثيقهم لبعض الواقفة، والفطحية وغيرهم.
على أنّ الحجّ ليس بمحرّم، والاستئذان فيه من الإمام عليه السلام ليس بواجب، وإنّما مثله كمثل الاستخارة أو الاستشارة، إذ تجوز فيهما المخالفة وإن كان التقيّد بنتائجهما أولى.
ومن هنا يتّضح أنّ المنع من الحجّ لم يكن بنحوٍ لازم، ولو فرض كونه كذلك، فلا منافاة بين تلك المخالفة والتوثيق من كلّ وجه.
والمهمّ من كلّ هذا، هو أنّ اُمّ الشيخ الكليني كانت ذات نشأة جيّدة في بيت جلّ رجالاته من حملة حديث أهل البيت عليهم السلام ، فهي لابدّ وأن تكون قد أخذت ـ قبل انتقالها إلى الشيخ يعقوب ـ قسطا من علم وفقه أخيها وعمّها وأبيها باعتبار نشأتها بين أحضان تلك الاُسرة المعروفة بالفضل والديانة والخيريّة؛ ممّا انعكس هذا على بيتها الجديد، حتى كأنّها مدرسة أُعِدَّت بعناية لذلك البيت الشريف، الذي كان من ثمراته علمان بارزان:
أوّلهما: من كان موردا لعناية ولطف الإمام المهدي عليه السلام ، وهو الشيخ الجليل إسحاق بن يعقوب بن إسحاق الكليني، أخو الشيخ الكليني وأحد أساتذته كما سيأتي في مشايخه.
والآخر: الشيخ الأجلّ، المجدّد الشهير، وعملاق الحديث، محمّد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، المعروف بـ (ثقة الإسلام).
وبمناسبة الحديث عن الاُسرة التي احتضنت ثقة الإسلام، نود التذكير بأمرين.
أحدهما: بسؤالنا القديم الذي مضى على طرحه زهاء عشرين عاما: «هل للكليني ولد»؟ ولم يزل إلى الآن بلا جواب محكم، حيث لم أجد ـ رغم التتبّع الطويل الواسع ـ ما يشير إلى النفي أو الإثبات بشكل قاطع.
وفي هذا الصدد، قال الشيخ المامقاني في ترجمة أحمد بن أحمد الكوفي أبي الحسين الكاتب، قال: «لم أقف فيه إلّا على عنوان الوحيد له بذلك، وقوله: إنّه سيجيء في أحمد ابن محمّد بن يعقوب الكليني ما يشير إلى حسن حاله في الجملة» ۱۱ .
ولكن لم يرد لا في التعليقة ولا في غيرها (أحمد بن محمّد بن يعقوب الكليني).
وأمّا أحمد بن محمّد بن يعقوب الرازي المذكور في كتب العامّة فالمراد به ابن مسكويه، صاحب كتاب تجارب الاُمم (ت / 421 ه ).
كما وقع رجل آخر بعنوان أحمد بن محمّد بن يعقوب الرازي في مسند الشهاب للقضاعي (ت / 454 ه ) وقد روى عنه بواسطتين ۱۲ ، وكان الراوي المباشر عنه هو أحمد ابن الحسن بن إسحاق الرازي المتوفّى (سنة / 357 ه )، وأحمد هذا لم أقف على ترجمة له، ولا دليل على أنّه ابن الكليني، وتظهر عامّيته بوضوح من خلال تردّد ذكره في أسانيد العامّة، في حين لم يرو عنه أحد من محدِّثي الشيعة.
والآخر: في خصوص أصل الكليني، إذ لا دليل على انحداره من اُصول فارسية، خصوصا وأنّ اسم جدّه الأعلى ليس من أسماء الفرس، فاسم جدّ البخاري صاحب الصحيح مثلاً هو بردزبه، وهو من أسماء المجوسية، ولا يكفي الانتساب إلى كلين والولادة فيها على تثبيت الأصل الفارسي، كما لا دليل على انحدار ثقة الإسلام من اُصول عربية أيضا، وربّما قد يستفاد من الكافي نفسه ما يشير عن بعد إلى عدم فارسيّته، فقد روى بسنده عن محمّد بن الفيض، عن الإمام الصادق عليه السلام بأنّ النرجس من ريحان الأعاجم.
ثمّ قال الكليني معقّبا: «وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الأعاجم كانت تشمّه إن صاموا، وقالوا: إنّه يمسك الجوع» ۱۳ ، بتقريب أنّه لو كان الكليني من الأعاجم أصلاً لما احتاج إلى الرواية بنسبة شمّ الريحان إليهم، إذ يمكنه تأكيده بنفسه؛ لعدم خفاء ذلك على من انحدر منهم، خصوصا مع قرب زمانه منهم، ولكنّه دليل ضعيف لا يعتمد عليه.

1.. رجال النجاشي : ص ۷۱ الرقم ۱۷۱ .

2.. السنن الكبرى : ج ۲ ص ۷۳ .

3.. راجع كتاب: الفهرست لمنتجب الدين : ص ۱۸۲ و ۲۶۵ و ۴۰۴ و ۴۰۵ .

4.. في شهر شعبان من (سنة / ۱۴۲۹ ه ) أي: بعد ثلاث سنوات وستة أشهر من الآن ستمرّ الذكرى الألفية بعد المائة على وفاة ثقة الإسلام الكليني رحمه الله .

5.. روضات الجنّات : ج ۶ ص ۱۰۸، شرح اُصول الكافي / المظفّر : ج ۱ ص ۱۳ .

6.. رجال الشيخ الطوسي : ص ۴۰۷ الرقم ۵۹۲۰ (۱).

7.. المصدر السابق : ص ۴۳۹ الرقم ۶۲۷۹ (۲۹)، رجال ابن داوود : القسم الأوّل ، ص ۱۶۰ الرقم ۱۲۷۷ .

8.. خلاصة الأقوال : القسم الأوّل ، ص ۲۵۰ الرقم ۸۴۸ (۵۰) .

9.. رجال النجاشي : ص ۲۶۰ ـ ۲۶۱ الرقم ۶۸۲.

10.. رجال النجاشي : ص ۳۷۷ الرقم ۱۰۲۶.

11.. تنقيح المقال : ج ۱ ص ۴۹ ، وانظر تعليقة الوحيد على منهج المقال : ص ۳۱ الطبعة الحجرية، ولكن في الطبعة المحقّقة : ج ۱ ص ۲۱ الرقم ۸۰ قال: (سيجيء في محمّد بن يعقوب الكليني...)، فلاحظ.

12.. مسند الشهاب : ج ۲ ص ۱۷۴، تهذيب الكمال : ج ۲۹ ص ۲۸۳ الرقم ۶۳۶۴ ، ميزان الاعتدال : ج ۴ ص ۲۴۲ الرقم ۸۹۹۷ .

13.. فروع الكافي : ج ۴ ص ۱۱۲ ح ۲ باب الطيب والريحان من كتاب الصيام.


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
136
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 289511
صفحه از 532
پرینت  ارسال به