133
موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6

يصل إلى المركز الّذي يتطلّع إليه من الناحية الماديّة أو المعنويّة ، وما جاء في الأحاديث السابقة من أنّه : «كلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ» يشير إلى هذه الملاحظة .
نعم كلّ شيء في نظام الخلق يمتلك الاستعداد لهدف خاصّ على أساس التقدير الحكيم للحقّ تعالى ، وهذا الهدف يمكن توظيفه في ذلك النطاق ، كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام :
قَدَّرَ ما خَلَقَ فَأَحكَمَ تَقديرَهُ ، وَدَبَّرَهُ فَأَلطَفَ تَدبيرَهُ ، وَوَجَّهَهُ لِوِجهَتِهِ فَلَم يَتَعَدَّ حُدودَ مَنزِلَتِهِ ، وَلَم يَقصُر دونَ الاِنتِهاءِ إلى غايَتِهِ ، وَلَم يَستَصعِب إذ أُمِرَ بِالمُضِيِّ عَلى إرادَتِهِ .۱
يقول ابن أبي الحديد في تفسير تلك العبارات :
يقول عليه السلام إنَّه تعالى قدَّر الأشياء الّتي خلقها ، فخلقها محكمةً على حسب ما قدّر ، وألطف تدبيرها ، أي جعله لطيفا ، وأمضى الاُمور إلى غايتها وحدودها المقدَّرة لها ، فهيّأ الصقرة للإصطياد ، والخيل للرُّكوب والطراد ، والسَّيف للقطع ، والقلم للكتابة ، والفلك للدوران ، ونحو ذلك ، وفي هذا إشارة إلى قول النبيِّ صلى الله عليه و آله : «كلّ ميسَّر لما خلق له» ، فلم تتعدّ هذه المخلوقات حدود منزلتها الَّتي جعلت غايتها .۲
إنّ الإنسان لا يمكنه ـ كسائر المخلوقات ـ أن يخرج من نطاق المقدّرات الإلهيّة ، والفرق الوحيد بين الإنسان وسائر المخلوقات هو أنّه حرّ في تعيين مصيره في نطاق المقدّرات الإلهيّة ، وإنّ نظام الخلق سوف يوفّر له أداة الوصول إلى المصير الّذي يختاره مهما كان هذا المصير: «كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلَاءِ وَ هَـؤُلَاءِ مِنْ عَطَـاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَـاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»۳
.

1.نهج البلاغة : الخطبة ۹۱ .

2.شرح نهج البلاغة : ج ۶ ص ۴۱۷ .

3.الإسراء : ۲۰ .


موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6
132

سَبَقَ العِلمُ وجَفَّ القَلَمُ وَمَضَى القَدَرُ ، بِتَحقيقِ الكِتابِ وَتَصديقِ الرُّسُلِ ، وَبِالسَّعادَةِ مِنَ اللّهِ عز و جل لِمَن آمَنَ وَاتَّقى ، وَبِالشَّقاءِ لِمَن كَذَّبَ وَكَفَرَ ، وَبِوِلايَةِ اللّهِ المُؤمِنينَ وَبَراءَتِهِ مِنَ المُشرِكينَ .۱
على هذا فإنّ جفاف قلم التقدير لا يسلب الإنسان حرّيته وحسب ، بل إنّه يمنحه الحرّية ، لأنّ كتابته الّتي هي غير قابلة للتغيير هي حرّية الإنسان في اختيار طريق السعادة ، أو الشقاء.
نعم ، هناك قلم آخر إذا جفّ فإنّ الحرّية ستسلب من الإنسان ، ألا وهو قلم التكليف ، كما جاء في الحديث النبويّ في وصف الموت المفاجئ للأشخاص الشرّيرين :
أما رَأَيتُمُ المَأخوذينَ عَلَى العِزَّةِ وَالمُزعَجينَ بَعدَ الطُمَأنينَةِ ، الَّذينَ أقاموا عَلَى الشُبُهاتِ وَجَنَحوا إلَى الشَّهَواتِ ، حَتّى أتَتهُم رُسُلُ رَبِّهِم ، فَلا ما كانوا أمَّلوا أدرَكوا ، ولا إلى ما فاتَهُم رَجَعُوا ، قَدِموا عَلى ما عَمِلوا ، ونَدِمُوا عَلى ما خَلَّفوا ، وَلَن يُغنِي النَّدَمُ وَقَد جَفَّ القَلَمُ . فَرَحِمَ اللّهُ امرَءا قَدَّمَ خَيرَا وَأنفَقَ قَصدا وَقالَ صِدقَا ، وَمَلَكَ دَواعي شَهوَتِهِ وَلَم تَملِكهُ ، وَعَصى أمرَ نَفسِهِ فَلَم تَملِكهُ .۲

3 . نطاق حرّية الإنسان في دائرة التقدير الإلهي

الملاحظة الثالثة : إنّ حرّية الإنسان ليست مطلقة في تعيين مصيره الدنيوي والاُخروي ، بل هي في دائرة القضاء والقدر الإلهيين ، لأنّ لكلّ إنسان استعدادا خاصّا على أساس التقدير الحكيم للحقّ جلّ وعلا ، حيث لا يستطيع أن يتمتّع بحرّيته وسعيه ، إلّا في نطاق مقدراته واستعداداته ، لا أنّ كلّ شخص بإمكانه أن

1.راجع : ص ۲۱۹ ح ۶۰۲۵ .

2.بحارالأنوار : ج ۷۷ ص ۱۷۹ ح ۱۰ .

  • نام منبع :
    موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6
    المساعدون :
    برنجکار، رضا
    المجلدات :
    6
    الناشر :
    دار الحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الثالثة
عدد المشاهدين : 101260
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي