45
حكم النّبيّ الأعظم ج7

عدالة الأسعار في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

بتأمّل في ما مضى، يتّضح أنّ ما عهد به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من ضرورة أن يكون البيع سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالبائع والمشتري ليس فقط لا يتنافى مع موقف النبي صلى الله عليه و آله في مناهضة التسعير، وإنّما أيضا يقع في سياق الموقف ذاته، لكن من زاوية مواجهة المؤثّرات التي تزيد في الأسعار دون ضابطة.
بتعبير أكثر وضوحا: إنّ ما عهد به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى مالك الأشتر هو التأكيد على أن يكون البيع سمحا، وأن تكون الأسعار بموازين عدل، ومن ثمّ فهو لم يأمره بتخفيض الأسعار والتقليل من قِيَمها، ولا ريب أنّ انتظام الأسعار بموازين عدل لا يعني إلحاق الضرر بالمنتج أو بالبائع، وإنّما سيكون الأمر كما عبّر عنه الإمام في نصّ عهده؛ من أنّ الأسعار تنتظم في موازين عدل حين لا يجحف بالفريقين: البائع والمبتاع. وهذه الحقيقة لا تكتسب صيغتها الواقعية على الأرض فعلاً إلّا إذا هيّأت الدولة المناخ المناسب لعرض السلع بأثمانها الطبيعية.
من هذا المنطلق، أفتى عدد من الفقهاء بجواز التسعير للحاكم في حال إجحاف البائع. ۱
حين نأخذ هذا التحليل بنظر الاعتبار، فعندئذٍ يمكن القول بأنّ الفتوى بعدم جواز التسعير ناظرة إلى التسعير في مقابل السعر الطبيعي. أمّا فتوى الجواز فناظرة إلى التسعير والإلزام بقيمة محدّدة في مقابل السعر غير الطبيعي، وبغية مواجهة العناصر الكاذبة الكامنة وراء رفع الأسعار على نحوٍ وهمي غير واقعي. على هذا الأساس، ليس ثمّ تهافت في فتاوى الفقهاء حول التسعير.

1.اختار القولَ بجواز التسعير المفيدُ في المقنعة (ص ۹۶)، وابن حمزة في الوسيلة (الجوامع الفقهية : ص ۷۴۵)، والشهيد في الدروس (ص ۳۳۲)، وفي مفتاح الكرامة (ج۴ ص ۱۰۹) : «وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح والدروس واللمعة والمقتصروالتنقيح أنّه [أي الحاكم] يسعِّر عليه إن أجحف في الثمن؛ لما فيه من الإضرار المنفي» (راجع: ولاية الفقيه: ج۲ ص ۶۶۰). وقال السيد الخميني: «وأمّا التسعير فلا يجوز ابتداءً، نعم لو أجحف اُلزم بالتنزّل، وإلّا ألزمه الحاكم بسعر البلد أو بما يراه مصلحة. فما دلّ على عدم التسعير منصرف عن مثل ذلك، فإنّ عدم التسعير عليه قد ينتهي إلى بقاء الاحتكار، كما لو سعّر فرارا من البيع بقيمة لا يتمكّن أحد من الاشتراء بها، فلا إشكال في أنّ أمثال ذلك إلى الوالي، والأخبار لا تشمل مثله » (كتاب البيع: ج ۳ ص ۴۱۶) .


حكم النّبيّ الأعظم ج7
44

المسعّر هو اللّه

يمكن تقسيم السعر إلى قسمين، هما: السعر الطبيعي، والسعر غير الطبيعي. يتحرّك السعر الطبيعي في إطار الأوضاع والمكوّنات الواقعية للسلعة والسوق؛ مثل النوعية، والكمّية، وكلفة الإنتاج، والتوزيع، والحفظ، والطلب، وكلّ ما له دخل في تكوين القيمة الحقيقية للسلع. أمّا السعر غير الطبيعي فهو ناشئ عن أوضاع غير طبيعية يفرضها البائع؛ كالاحتكار، والتحالف والتواطؤ على سعرٍ معيّن ـ أو ما يُعرف بالتباني ـ وإيجاد السوق السوداء.
على ضوء هذا التصنيف، يعدّ السعر الإلهي هو السعر الطبيعي نفسه، ويظهر أنّ الأحاديث التي تنسب السعر إلى اللّه سبحانه تتحدّث عن وجود سعر لكلّ سلعة ينبثق على أساس الشروط الواقعية لوجود تلك السلعة وإنتاجها وتبعا للحالة الطبيعية للسوق؛ فما ينتج من حاصل كلفة السلعة والوضع الطبيعي للسوق يمثّل السعر الطبيعي الذي تذكر الأحاديث أنّه من عند اللّه سبحانه، وهو السعر الذي تستقرّ عليه السلعة في السوق إذا لم تتدخّل العوامل غير الطبيعية.

معارضة النبيّ صلى الله عليه و آله للتسعير

يُلقي التنويع السعري ـ المشار إليه آنفا ـ ضوءا على موقف الدولة من التسعير، فإذا كان التسعير الحكومي بمعنى خفض السعر الطبيعي للسلع، فهو في الحقيقة ظلم للمنتج، وإضرار بحركة الإنتاج ذاتها.
ولا ريب أنّ خفض الإنتاج يستتبع التخلّف الاقتصادي، ومن ثمّ لا يحقّ للدولة أن تخفض أسعار السلع تحت مستوى السعر الطبيعي ـ الموائم لكلفة الإنتاج والوضع الطبيعي للسوق ـ حتّى في أوضاع الأزمة وفي أوقات شحّة السلع، بل تبرز وظيفتها في مواجهة العوامل غير الطبيعية التي تزيد في الأسعار فوق قيمها الطبيعية.
على هذا الضوء، تتبيّن الحكمة من وراء معارضة النبيّ والإمام أمير المؤمنين ـ صلوات اللّه عليهما ـ للتسعير ومكافحتهما للاحتكار في الوقت ذاته؛ فمن جهة كان هذا الموقف يهدف إلى الحؤول دون الإجحاف بالمنتج وإلحاق الظلم به، ممّا يؤدّي إلى خفض مستوى الإنتاج، كما كان يسعى من جهة اُخرى للقضاء على العناصر التي تفضي إلى ارتفاع الأسعار من دون ضابطة.
على هذا يبدو أنّ الفقهاء الذين أفتوا بعدم جواز التسعير مطلقا كانوا ناظرين إلى هذا المعنى ۱ .

1.براى آگاهى بيشتر از اين آثار ، ر . ك : دانش نامه امام على عليه السلام ، ج ۱۲ ، ص ۲۴۹ - ۲۵۸ : «غرر الحكم ودرر الكلم» ، ناصرالدين انصارى قمى.

2.أفتى جمع من الفقهاء بعدم جواز التسعير، فمنهم الشيخ الطوسي في النهاية(ص ۳۷۴)، والمبسوط (ج۲ ص ۱۹۵)، وابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية: ص ۵۲۸)، والمحقّق في الشرائع (ج ۲ ص ۲۱) والمختصر (ص ۱۲۰)، والعلّامة في القواعد (ج۱ ص ۱۳۲)، بل نسب في مفتاح الكرامة (ج۴ ص ۱۰۹) هذا القول إلى الإجماع، وقال: «إجماعا وأخبارا متواترة كما في السرائر، وبلا خلاف كما في المبسوط، وعندنا كما في التذكرة». وقال السيد الخوئي بعد أن أفتى بمنع التسعير: «نعم، لو أجحف في القيمة بحيث كان ازديادها نحوا من الاحتكار يمنع الحاكم عن ذلك بحيث يبيع المالك بقيمة السوق أو أكثر منه بمقدار لا يمنع الناس عن الشراء، بأن تكون قيمة كل حقّةٍ من الحنطة مائة فلس ويبيع المحتكر بدينارين، فإنّه أيضا احتكار، كما لايخفى» (مصباح الفقاهة: ج۵ ص ۵۰۰) .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج7
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 317501
الصفحه من 662
طباعه  ارسل الي