203
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج4

إتمام الحجّة على الخواصّ والعوامّ

إنّ ما ذكره الإمام مجملاً إلى كميل بن زياد ـ في الصحراء ـ من خطر خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام ، وما كان قد أشار إليه بهذا الشأن في مجلس خاصّ جمع فيه عدّة من المقرّبين والأتباع المخلصين ، عاد لاستعراضه تفصيلاً أمام جمهور الناس في خطبة طويلة ألقاها في الأشهر الأخيرة من حكمه ، حيث أتمّ بذلك الحجّة على الخواصّ والعوامّ معاً .
لقد استعرض الإمام في كلامه هذا ـ الذي حمل عنوان «الخطبة القاصعة» ۱ والتي أدلى بها بعد معركة النهروان كما يتّضح من متنها ـ نقاطاً أساسيّة على غاية قصوى من الأهميّة ترتبط بمعرفة المجتمع المعاصر له ، وعلل انكسار النهضات الدينيّة قبل الإسلام ، ثم ما يتصل بالتنبؤ بمستقبل المسلمين ومآل الإسلام .

تحذير للخواصّ

في هذا الخطاب وبعد أن عرّج الإمام على المصير الذي آل إليه إبليس بعد ستّة آلاف سنة من العبادة ، انعطف إلى النخب التي لها في خدمة الإسلام سابقة مشرقة ، وراح يحذّرها من أن تؤول إلى المصير نفسه ، وهو يقول : «فَاحذَروا ـ عِبادَ اللّهِ ـ عَدُوَّ اللّهِ أن يُعدِيَكُم بِدائِهِ ، وأن يَستَفِزَّكُم بِنِدائِهِ!» .
ولكي لا تُبتلى الاُمة بهذا المصير يتحتّم عليها أن تكفّ عن العصبيّة ، وأحقاد

1.قال ابن أبي الحديد: يجوز أن تسمّى هذه الخطبة «القاصعة» من قولهم: قصعت الناقة بجرّتها، وهو أن تردّها إلى جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها، فلمّا كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردّدة من أوّلها إلى آخرها، شبّهها بالناقة التي تقصع الجرّة. ويجوز أن تسمّى «القاصعة» لأنّها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة، إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمّى «القاصعة» لأنّ المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته ، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه وسكّنه (شرح نهج البلاغة : ج۱۳ ص۱۲۸).


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج4
202

الدين . ثم تنشأ في هذا الاتّجاه البُؤر المتعصّبة ، والتجمّعات العمياء ، وتتبدّل الفتنة الأخلاقيّة إلى فتنة ثقافيّة ، ثمّ إلى فتنة سياسيّة واجتماعيّة ، حيث يسعى أصحاب الفتنة إلى تسويغ مقاصدهم من خلال استغلال نصاعة الحق .
يقول عليه السلام : «ألا إنَّ الحَقَّ لَو خَلَصَ لَم يَكُنِ اختِلافٌ ، ولَو أنَّ الباطِلَ خَلَصَ لَم يَخفَ عَلى ذي حِجى ، لكِنَّهُ يُؤخَذُ مِن هذا ضِغثٌ ومِن هذا ضِغثٌ» . ۱
في فضاء ثقافي مثل هذا تتعذّر الإصلاحات الجذريّة ، وتستعصي عمليّاً عمليّة العودة إلى السنّة النبويّة .
بعد بيان هذه المقدمة انعطف الإمام صوب جوهر القضيّة ، وراح يعدّد صراحة عدداً من البدع التي شاعت في المجتمع الإسلامي ممّا ورثه من السابقين عليه ، ثم أكّد بألم أن ليس في وسعه أن يفعل شيئاً في هذا المجال ؛ لأنّ مواجهة هذه الانحرافات الثقافيّة تنتهي بتفرّق الجند عنه وبقائه وحيداً ، فقال عليه السلام : «ولَو حَمَلتُ النّاسَ عَلى تَركِها وحَوَّلتُها إلى مَواضِعِها وإلى ما كانَت في عَهدِ رَسولٍ صلى الله عليه و آله لَتَفَرَّقَ عَنّي جُندي ، حَتّى أبقى وَحدي ، أو قَليلٌ مِن شيعَتي» ۲ .

1. ثمّ يواصل أمير المؤمنين استعراضه الموقف . فبعد مرور جيل تستحكم البدعة ، وترسخ مواقعها بدلاً من السنّة بحيث صار يستعصي عمليّاً معرفة السنّة مجدّداً . وفي هذا المضمار يستعين الإمام بحديث من السنّة النبويّة ـ حيث كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد تنبّأ بشيوع مثل هذه الأجواء وسط المجتمع الإسلامي ـ وهو يقول : «إنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ يَقولُ : كَيفَ أنتُم إذا لَبِسَتكُم فِتنَةٌ يَربو فيهَا الصَّغيرُ ، ويَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، يَجرِي النّاسُ عَلَيها ، ويَتَّخِذونَها سُنَّةً ، فَإِذا غُيِّرَ مِنها شَيءٌ قيلَ : قَد غُيِّرَتِ السُّنَّةُ» . . راجع الكافي : ج ۸ ص ۵۸ ح ۲۱ ، الاحتجاج : ج ۱ ص ۶۲۶ ح ۱۴۶ .

2.راجع : ج ۲ ص ۳۸۵ (تعذّر بعض الإصلاحات) .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج4
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 149511
الصفحه من 684
طباعه  ارسل الي