اُريدُ أن تُوصِيَني بوَصِيَّةٍ يَنفَعُني اللَّهُ بها بَعدُ .
قالَ الخضرُ : يا طالِبَ العِلمِ ، إنّ القائلَ أقَلُّ مَلالَةً مِن المُستَمِعِ فلا تُمِلَّ جُلَساءكَ إذا حَدَّثتَهُم ، واعلَمْ أنّ قَلبَكَ وِعاءٌ فانظُرْ ماذا تَحشو بهِ وِعاءكَ ، فاعزُبْ عَنِ الدُّنيا وانبِذْها وَراءكَ ؛ فإنّها لَيسَت لَكَ بِدارٍ ، ولا لَكَ فيها مَحَلُّ قَرارٍ ، وإنّها جُعِلَت بُلغَةً لِلعِبادِ لِيَتَزَوّدوا مِنها لِلمَعادِ .
ويا موسى ، وَطِّنْ نَفسَكَ علَى الصَّبرِ تَلقَ الحِلمَ ، وأشعِرْ قَلبَكَ التّقوى تَنَلِ العِلمَ ، وَرُضْ نَفسَكَ علَى الصَّبرِ تَخلُص مِن الإثمِ .
يا موسى ، تَفَرَّغْ للعِلمِ إن كُنتَ تُريدُهُ ؛ فإنّ العِلمَ لِمَن تَفَرَّغَ ، ولا تَكُونَنَّ مِكثاراً بِالنُّطقِ مِهذاراً۱ ؛ فإنَّ كَثرَةَ النُّطقِ تَشينُ العُلَماءَ ، وتُبدي مَساوِيَ السُّخَفاءِ ، ولكنْ علَيكَ بالاقتِصادِ ؛ فإنَّ ذلكَ مِن التّوفيقِ والسَّدادِ ، وأعرِضْ عنِ الجُهّالِ وباطِلِهِم ، واحلُمْ عنِ السُّفَهاءِ ؛ فإنَّ ذلكَ فِعلُ الحُكَماءِ وزَينُ العُلَماءِ ، إذا شَتمَكَ الجاهِلُ فاسكُتْ عَنهُ حِلماً وحَنانَةً وحَرِماً۲، فإنّ ما بَقِيَ مِن جَهلِهِ علَيكَ وشَتمِهِ إيّاكَ أعظَمُ وأكبَرُ .
يابنَ عِمرانَ ، ولا تَرى أنّكَ اُوتِيتَ مِن العِلمِ إلّا قَليلاً ، فإنّ الاندِلاثَ والتَّعَسُّفَ مِن الاقتِحامِ والتَّكلُّفِ .
يابنَ عِمرانَ ، لا تَفتَحَنَّ باباً لا تَدري ما غَلقُهُ ، ولا تُغلِقَنَّ باباً لا تَدري ما فَتحُهُ .
يابنَ عِمرانَ ، مَن لا يَنتَهي مِن الدُّنيا نَهمَتُهُ۳ ولا يَنقَضي مِنها رَغبَتُهُ كَيفَ يَكونُ عابِداً ؟! ومَن يُحَقِّرْ حالَهُ ويَتَّهِمُ اللَّهَ فيما قَضى كَيفَ يَكونُ زاهِداً ؟! هَل يَكُفُّ عَنِ الشَّهَواتِ مَن غَلَبَ علَيهِ هَواهُ ؟! أو يَنفَعُهُ طَلَبُ العِلمِ والجَهلُ قَد حَواهُ ؟! لأنّ سَفرَهُ إلى آخِرَتِهِ وهُو مُقبِلٌ على دُنياهُ .
1.مهذار : أي كثير الكلام . (النهاية : ۵/۲۵۶) .
2.كذا في المصدر ، والظاهر أنّ الصحيح «حَزماً» .
3.النَّهْمَة : بلوغ الهِمّة في الشيء. (النهاية : ۵/۱۳۸).