الوصية - الصفحه 5

اُريدُ أن تُوصِيَني بوَصِيَّةٍ يَنفَعُني اللَّهُ بها بَعدُ .
قالَ الخضرُ : يا طالِبَ العِلمِ ، إنّ القائلَ أقَلُّ مَلالَةً مِن المُستَمِعِ فلا تُمِلَّ جُلَساءكَ إذا حَدَّثتَهُم ، واعلَمْ أنّ قَلبَكَ وِعاءٌ فانظُرْ ماذا تَحشو بهِ وِعاءكَ ، فاعزُبْ عَنِ الدُّنيا وانبِذْها وَراءكَ ؛ فإنّها لَيسَت لَكَ بِدارٍ ، ولا لَكَ فيها مَحَلُّ قَرارٍ ، وإنّها جُعِلَت بُلغَةً لِلعِبادِ لِيَتَزَوّدوا مِنها لِلمَعادِ .
ويا موسى‏ ، وَطِّنْ نَفسَكَ علَى الصَّبرِ تَلقَ الحِلمَ ، وأشعِرْ قَلبَكَ التّقوى‏ تَنَلِ العِلمَ ، وَرُضْ نَفسَكَ علَى الصَّبرِ تَخلُص مِن الإثمِ .
يا موسى‏ ، تَفَرَّغْ للعِلمِ إن كُنتَ تُريدُهُ ؛ فإنّ العِلمَ لِمَن تَفَرَّغَ ، ولا تَكُونَنَّ مِكثاراً بِالنُّطقِ مِهذاراً۱ ؛ فإنَّ كَثرَةَ النُّطقِ تَشينُ العُلَماءَ ، وتُبدي مَساوِيَ السُّخَفاءِ ، ولكنْ علَيكَ بالاقتِصادِ ؛ فإنَّ ذلكَ مِن التّوفيقِ والسَّدادِ ، وأعرِضْ عنِ الجُهّالِ وباطِلِهِم ، واحلُمْ عنِ السُّفَهاءِ ؛ فإنَّ ذلكَ فِعلُ الحُكَماءِ وزَينُ العُلَماءِ ، إذا شَتمَكَ الجاهِلُ فاسكُتْ عَنهُ حِلماً وحَنانَةً وحَرِماً۲، فإنّ ما بَقِيَ مِن جَهلِهِ علَيكَ وشَتمِهِ إيّاكَ أعظَمُ وأكبَرُ .
يابنَ عِمرانَ ، ولا تَرى‏ أنّكَ اُوتِيتَ مِن العِلمِ إلّا قَليلاً ، فإنّ الاندِلاثَ والتَّعَسُّفَ مِن الاقتِحامِ والتَّكلُّفِ .
يابنَ عِمرانَ ، لا تَفتَحَنَّ باباً لا تَدري ما غَلقُهُ ، ولا تُغلِقَنَّ باباً لا تَدري ما فَتحُهُ .
يابنَ عِمرانَ ، مَن لا يَنتَهي مِن الدُّنيا نَهمَتُهُ‏۳ ولا يَنقَضي مِنها رَغبَتُهُ كَيفَ يَكونُ عابِداً ؟! ومَن يُحَقِّرْ حالَهُ ويَتَّهِمُ اللَّهَ فيما قَضى‏ كَيفَ يَكونُ زاهِداً ؟! هَل يَكُفُّ عَنِ الشَّهَواتِ مَن غَلَبَ علَيهِ هَواهُ ؟! أو يَنفَعُهُ طَلَبُ العِلمِ والجَهلُ قَد حَواهُ ؟! لأنّ سَفرَهُ إلى‏ آخِرَتِهِ وهُو مُقبِلٌ على‏ دُنياهُ .

1.مهذار : أي كثير الكلام . (النهاية : ۵/۲۵۶) .

2.كذا في المصدر ، والظاهر أنّ الصحيح «حَزماً» .

3.النَّهْمَة : بلوغ الهِمّة في الشي‏ء. (النهاية : ۵/۱۳۸).

الصفحه من 24