شواهد حديثيّة علي تصويبات لغوية - الصفحه 8

شواهد حديثيّة على تصويبات لغوية

الشيخ علي موسى الكعبي

بسم الله الرّحمن الرّحيم
يحتلّ الحديث الشريف مساحةً واسعةً من دائرة الاحتجاج اللغوي للغرض المعنويّ المتعلّق بإثبات معنى كلمة ما وما يتبع ذلك من قواعد بلاغيّة في علم المعاني والبيان والبديع ، ولو تصفّحنا معاجم اللغة العربيّة قاطبةً لرأينا الأحاديث النبويّة الشريفة منثورةً فيها بكثرة مستفيضة ، ولم يتخلّف معجمٌ عربيّ واحدٌ عن الأخذ بالحديث سواءً منه المتواتر وغير المتواتر .
وقد أسهب اللغويّون في هذا المجال; حتّى أنّهم أفردوا الحديث الشريف بمصنّفات لغويّة خاصّة في غريبه ومجازه وبيانه وما إلى ذلك ممّا يتّصل بسائر علوم العربيّة .
وكان من بين اللغويين الذين استشهدوا بالحديث لتوثيق نصوص اللغة ومعاني ألفاظها : أبو عمرو بن العلاء ، والخليل بن أحمد ، والأصمعي ، والمفضّل الضبّي ، وثعلب ، والفرّاء ، وأبو زيد الأنصاري ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وابن
الأعرابي ، وابن السِكّيت ، وأبو حاتم ، وابن قتيبة ، والمبرّد ، وابن دُريد ،والأزهري ، والفارابي ، والصاحب بن عبّاد ، وابن فارس ، والجوهريّ ، وابن برّي ، وابن سِيدة ، وابن منظور ، والفيروزآبادي ، وغيرهم كثير .
أمّا مساحة الاحتجاج بالحديث الشريف عند النحاة للغرض اللفظي المتعلّق بإثبات صحّة استعمال اللفظ أو التركيب وما يتبع ذلك من قواعد في علم اللغة والنحو والصرف ، فتكاد تكون أضيق بكثير عمّا هي عليه عند اللغويين للغرض الأوّل ، ولو لم تعرف الأسباب المقنعة لهذا الموقف ، فإنّه ينطوي على خلل منهجيّ كبير ، فما معنى عدم تردّدهم في الاحتجاج بالحديث عندما يكونون لغويين ، وما معنى تحفّظهم وتردّدهم في ذلك حينما يكونون نحويين يقعّدون القواعد ويستنبطون الأحكام؟
لقد اعتاد كثيرٌ من الباحثين على تقسيم النحاة من حيث موقفهم من الاستشهاد بالحديث الشريف إلى ثلاثة أقسام ، وهم : المانعون ، والمتوسطون ، والمجوّزون ، وجعل بعض النحاة ـ ومنهم أبو الحسن ابن الضائع ت 680 هـ ، وأبو حيّان ت 745 هـ  في «شرح التسهيل» ـ جميع الواضعين الأوائل لعلم النحو من المانعين عن الاستدلال بالحديث على إثبات القواعد الكليّة في لسان العرب ، ثمّ إنّهما ذكرا عللاً لذلك تتعلّق بجواز رواية الحديث بالمعنى ، وكون بعض رواته من غير العرب ۱  .
والحقّ أنّ منع النحاة الأوائل من الاستشهاد بالحديث أو رفضهم إيّاه ، أمرٌ تخيّله المتأخّرون ليس إلاّ ، أو استنتجوه ثمّ حاولوا أن يبرّروا ذلك بعلل واهية ، ذكرنا في دراسة مفصلة أخرى على صفحات هذه المجلة الغرّاء ۲ أنّها لاتصمد أمام
النقد العلميّ القويم ولا تنسجم مع واقع الحال .
ولو صحّ أنّ النحاة الأوائل لم يستشهدوا بالحديث ، فإنّ ذلك لايعني أنّهم كانوا لايجيزون الاستشهاد به أو يمنعون منه ، طالما لم يرد أيّ تصريح عن واحد منهم يقضي بالامتناع المنسوب إليهم أو برفضهم ، وفوق ذلك توفّرت الدراسات العلميّة على إثبات أنّ الشاهد الحديثيّ كان يتخلّل دراسات النحاة الأوائل ومباحثهم النحويّة ، وإنْ بدا قليلاً في أوّل مرّة ، لكنّه أخذ في الزيادة باطّراد مع مرور الأيّام .
وكان من جملة الذين احتجوا بالحديث المبرّد في «المقتضب» وسيبويه في «الكتاب» وإنْ لم يصرّح بكونه حديثاً ، وكثيرون غيرهما ۳  .
وخلاصة الأمر أنّ الشواهد ـ التي احتجّ بها قدامى النحاة لإثبات قواعد العربيّة وأحكامها ـ قليلةٌ جداً; لو قورنت مع الشواهد التي احتجّ بها اللغويون لإثبات المعاني في معاجم اللغة ، كما أنّها قليلةٌ ـ أيضاً ـ إذا ما قورنت بالشواهد التي اختارها النحاة من كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم .
قيل في سبب هذا الموقف : إنّه لم يكن لعدم الثقة العلميّة بالحديث الشريف وجهابذته ، بل كان لأسباب فكريّة مذهبيّة وسياسيّة ، وثمرة أوضاع عامة مضطربة سادت البيئة التي عاشت فيها طوائف النحاة الأولى ۴  .
وذهب بعض الباحثين إلى أنّ قلّة استشهادهم بالحديث الشريف وانصرافهم إلى غيره ، يعود لعدم خبرتهم بهذا العلم ودرايته وروايته ، وعدم تعاطيهم إيّاه ، وممارستهم له ۵ وفاقد الشيء لا يُعطيه .
وقيل : إنّ هذه الدعوى مردودةٌ : لأنّ كثيراً من علماء العربية الأوائل كانوا من
المحدّثين ، ومن بينهم : النضرين شميل المازني (ت 203 هـ ) والأصمعي ، وأبو زيدالأنصاري (ت 215 هـ ) والخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 هـ ) وغيرهم ۶  .
وقد ذكرنا في دراستنا المشار إليها آنفاً ۷ أنّ النحاة الأوائل كانوا في صدد الدفاع عن نصوص الشريعة وحراستها وتسهيل فهمها ، سيّما أنّ بعض أساليب تلك النصوص وتراكيبها جاريةٌ على غير ما شاع في الاستعمال العربيّ ، فلجأ النحاة إلى تأويلها ، لأنّها قد تُوهِمُ مَن لادرايةَ له بقواعد العربيّة ولهجاتها ولغاتها أنّها لحنٌ ۸ لذا لابدّ من الاستشهاد عليها من طرق أخرى هي محلّ اتّفاق الناطقين بالضاد; لأنّ الدفاع عن الشيء لايكون بالشيء نفسه ، وقد اشتهر عن ابن عباس (رضي الله عنه) كثرة استشهاده بشعر العرب في تفسيره ، فإذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً ، وكان يقول : إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب ، فإنّ الشعر ديوان العرب ۹  .
وما ذكرناه عن النحاة الأوائل ، لاينطبق على أكثر متأخّريهم ، فهم يميلون إلى صحّة الاستشهاد بالحديث الشريف في النحو العربي .
قال ابن الطيّب : ما رأيت أحداً من الأشياخ المحقّقين الاّ وهو يستدلّ بالأحاديث على القواعد النحويّة والألفاظ اللغويّة ، ويستنبطون من الأحاديث النبويّة الأحكام النحويّة والصرفيّة واللغويّة وغير ذلك من أنواع العلوم اللسانيّة; كما يستخرجون منها الأحكام الشرعيّة ۱۰  .
ومن بين هؤلاء : الصفّار ، والسيرافي ، والشريف الغرناطي ، والشريف الصقلي في شروحهم لكتاب سيبويه ، وابن عصفور ، وابن الحاج في «شرح المقرّب» وابن الخباز في «شرح ألفية ابن مُعْط» وابن مالك ، وابن هشام ، والجوهري ، والحريري ، وابن سِيدة ، وابن فارس ، وابن خروف ، وابن جني ، وابن برّي ، والسهيلي ، والزمخشري ، وابن الشجري ، وابن يعيش ، والرضيّ الاسترآبادي ، وابن عقيل ، والأزهري وغيرهم ممن يطول ذكرهم ۱۱  .
وبما أنّ الحديث صادرٌ من أفصح مَنْ نَطَقَ بالضاد ، ولأنّ العربيّة لم تعهد في تاريخها بعد القرآن الكريم بياناً أبلغ من الكلام النبويّ ، ولا أورع تأثيراً ، ولا أفعل في النفس ، ولا أصحّ لفظاً ، ولا أقوم معنىً منه ، ولذا تميل الدراسات اللغوية والنحويّة المعاصرة إلى الاحتجاج بالحديث الشريف ، لكافّة أغراض اللغة والنحو والصرف وسائر علوم العربية ، وإن قيّدوا ذلك ضمن شروط معيّنة ۱۲  .
وقد خطتْ تلك الدراسات خطوات متقدّمة على هذا الصعيد ، ومع ذلك ما زال أكثر الحديث كنزاً لغويّاً حافلاً بالمزيد من المفردات الفصيحة والتراكيب البليغة ، فهو بحاجة إلى كثير من الدراسات اللغويّة لاستخراج كنوزه ، وتسليط الضوء عليه ، وإدخاله ضمن دائرة البحث والدراسة .
ومن هنا خصّصنا مقالنا هذا لتسليط الضوء على جانب مهمٍّ من الدراسات اللغوية ، وهو تصحيح بعض الأخطاء الشائعة التي تتداولها الألسن والأقلام ، سواء تلك التي أشار اليها علماء اللغة في مصنّفاتهم; أم التي تحرّينا عنها بالسماع والقراءة ، وحاولنا قدر الوسع والإمكان الاستشهاد بالحديث النبويّ الشريف وأحاديث
أهل بيته المعصومين(عليهم السلام) على مدى صحّة التصويبات التي ذكرناها .
وقد لمسنا ـ خلال هذا المقال ـ أنّ في الحديث الشريف مساحةً تتّسع لمختلف الدراسات والبحوث اللغوية والنحوية والصرفيّة ، وتهيّىء الأرضية المناسبة لمن يريد أن يقطف من ثمار الشجرة المحمدية الباسقة وفروعها العلوية السامقة ، كنزاً لاينفد ، وذخراً به يسعد .
وفي ما يلي نذكر التصويبات ، وبالله التوفيق .

1.راجع : الاقتراح / السيوطي : ۱۷ ـ ۱۸

2.في مقال (الشواهد الشعرية ومناسباتها) في الكتب الاربعة الحديثية العدد ۹ من مجلة علوم الحديث ـ سنة ۱۴۲۲ .

3.راجع : الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية / د ـ محمد ضاري حمادي ففيه المزيد من الشواهد على ما ذكرناه .

4.الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية : ۴۵۹ .

5.في اصول النحو / سعيد الافغاني : ۴۸ .

6.الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية : ۳۱۱ .

7.الشواهد والمناسبات الشعرية في الكتب الاربعة الحديثية العدد ۹ من مجلة علوم الحديث سنة ۱۴۲۲ هـ .

8.راجع ، الحديث النبوي في النحو العربي / د محمود خجال : ۱۰۲ ـ ۱۰۴.

9.العمدة / ابن رشيق ۱ : ۹۰ ـ ۹۱ .

10.تحرير الرواية : ۱۰۱ .

11.راجع : تحرير الرواية : ۹۶ ـ ۹۹ .

12.راجع : الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية : ۴۳۵ ، مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو د ـ مهدي المخزومي ـ ۵۹ ـ ۶۰ ، في اصول النحو : ۴۱ دراسات في فقه اللغة / د صبحي الصالح : ۱۲۴ .

الصفحه من 42