87
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الشّرْحُ :

سدلت دونها ثوباً ، أي أرخيتُ ، يقول : ضربت بيني وبينها حجابا ؛ فِعْلَ الزاهد فيها ، الراغب عنها . وطويت عنها كشحاً ، أي قطعتها وصرمتها ؛ وهو مثلٌ ، قالوا : لأنّ مَنْ كان إلى جانبك الأيمن ماثلاً فطويت كشحكَ الأيسر فقد مِلْتَ عنه ، والكشح : ما بين الخاصرة والجنب .
وعندي ، أنّهم أرادوا غير ذلك ، وهو أنّ من أجاع نفسَه فقد طوى كشحه ، كما أنّ مَنْ أكل وشبِع فقد ملأ كشحَه ، فكأنّه أراد أنّي أجعتُ نفسي عنها ، ولم ألتهمها . واليد الجذاء بالدال المهملة وبالذال المعجمة ، والحاء المهملة مع الذال المعجمة ، كلّه بمعنى المقطوعة . والطَّخْية : قطعة من الغيم والسحاب . وقوله : « عمياء » ، تأكيد لظلام الحال واسودادها ، يقولون : مفازة عمياء ، أي يعمى فيها الدليل . ويكدح : يسعى ويكدّ مع مشقة ، قال تعالى : « إنَّك كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحا »۱ . وهاتا بمعنى هذه ، « ها » للتنبيه ، و « تا » للإشارة ، ومعنى « تا » ذي ، وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا ، وهو العقل .
وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ :
أولها : « لقد تقمصها » ، أي جعلها كالقميص مشتملة عليه ، والضمير للخلافة ، ولم يذكرها للعلم بها .
الثانية : « ينحدر عني السيل » ، يعني رفعة منزلته عليه السلام ، كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان .
الثالثة : قوله عليه السلام : « ولا يَرْقَى إليّ الطير » ، هذه أعظمُ في الرفعة والعلوّ من التي قبلها ؛ لأنّ السيل ينحدر عن الرابية والهضبة ، وأما تعذّرُ رقيّ الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدّا ، بل ما هو أعلى من قِلال الجبال ، كأنه يقول : إني لعلوّ منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يَرْقى الطير إليها .
الرابعة : « سدلت دونها ثوبا » ، قد ذكرناه .
الخامسة : « وطويت عنها كشحاً » ، قد ذكرناه أيضا .

1.سورة الانشقاق ۶ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
86

واعلم أنّ عليا عليه السلام كان يدّعي التقدّمَ على الكلّ ، والشرف على الكلّ ، والنعمةَ على الكلّ ، بابن عمه صلى الله عليه و آله ، وبنفسه وبأبيه أبي طالب ، فإنّ من قرأ علوم السّير عرف ، أنّ الإسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا .
واعلم أنّ هذه الكلمات ؛ وهي قوله عليه السلام : « الآن إذ رجع الحق إلى أهله ... » إلى آخرها يبعدُ عندي أن تكون مقولة عقِيب انصرافه عليه السلام من صفِّين ؛ لأنّه انصرف عنها وقتئذٍ مضطربَ الأمر ، منتشرَ الحبل ؛ بواقعة التحكيم ، ومكيدة ابن العاص ، وما تمَّ لمعاويةَ عليه من الاستظهار ، وما شاهد في عسكره من الخذلان . وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال ، وأخْلق بها أن تكونَ قيلت في ابتداء بَيْعته ، قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة ، وأنّ الرضي رحمه الله نقل ما وجد ، وحكى ما سمع ، والغلط من غيره ، والوهم سابق له . وما ذكرناه واضح .

3

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقيةأَمَا وَاللّه لَقَدْ تَقَمَّصَها ابن أبي قحافة ، وَإنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى . يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ، وَلا يَرْقَى إلَيَّ الطَّيْرُ ؛ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثُوْبا ، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحا ، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهْ ؛ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى ، فَصَبَرْتُ وَفي الْعَيْنِ قَذَىً ، وَفي الْحَلْقِ شَجا ، أَرَى تُرَاثي نَهْبا ۱ .

1.تقمصها : لبسها كالقميص ، القطب : من الرحى المحور الذي تدور عليه ، وقطب الشيء : ملاكه ومداره . طفقتُ : شرعت . أرتئي : أفكر للرأي الأصلح . هاتا : هذه . أحجى : أجدر . القذى : ما يقع في العين من تبنة ونحوها . الشجا : ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86577
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي