477
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ثم قال : « ولا يحيا له أثر ، إلاّ مات له أثر » ، وذلك أنّ الإنسان في الأعمّ الأغلب لا ينتشر صيتُه ويشيع فضلُه إلاّ عند الشيخوخة ، وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم في الدنيا إلاّ بعد كبره وعلو سنه ، فإذا ما حي له أثر إلاّ بعد أن مات له أثر ، وهو قوّته ونشاطه وشبيبته ، ومثله قوله : « ولا يتجدّد له جديد ، إلاّ بعد أن يخلَق له جديد » .
ثم قال : « ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة » ، هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعمّ الأغلب ، ولهذا قال : « وقد مضت أُصولٌ نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله » .

الأصْلُ :

۰.منها :وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ . فَاتَّقُوا الْبِدَعَ ، وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ . إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا ، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا .

الشّرْحُ :

البدْعة : كل ما أُحدِث مما لم يكنْ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ومعنى قوله عليه السلام : «ما أُحدِثتْ بدعة إلا تُرِكَ بها سنّة » ، أنّ من السنَّة ألاّ تحدث البدعة ، فوجود البدعة عدمٌ للسنّة لا محالة . والمهيَع : الطريق الواضح ، من قولهم : أرض هيعة ، أي مبسوطة واسعة ؛ والميم مفتوحة وهي زائدة . وعوازم الأُمور : ما تقادم منها ، من قولهم : عجوزٌ عوْزم أي مسنّة . ويجمع « فوعل » على فواعل ، كدورق ، وهَوْجل ، ويجوز أن يكون « عوازم » جمع عازمة ، ويكون فاعل بمعنى مفعول ، أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، ومجيء « فاعلة » بمعنى « مفعولة » كثير ، كقولهم : عيشة راضية بمعنى مرضيّة ، والأوّل أظهر عندي ؛ لأنّ في مقابلته قوله : « وإنّ محدَثاتها شرارها » والمحدَث في مقابلة القديم .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
476

شَرَقٌ ، وَفي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ ! لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى ، وَلاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ ، وَلاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بَنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ؛ وَلاَيَحْيَى لَهُ أَثَرٌ ، إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ ؛ وَلاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ ؛ وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ . وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا ، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!

الشّرْحُ :

الغَرَض : ما ينصَب ليُرمَى ، وهو الهدف . وتنتضِل فيه المنايا : تترامى فيه للسَّبْق ، ومنه الانتضال بالكَلاَم وبالشّعر، كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام؛من الناس مَنْ يموت قتلاً ، ومنهم مَنْ يموت غرقاً ، أو يتردّى في بئر ، أو تَسقط عليه حائط ، أو يموت على فراشه .
ثم قال : « مع كل جَرْعة شَرَق ، وفي كلّ أكلة غَصص » : بفتح الغين ، مصدر قولك : غَصِصْتَ يا فلان بالطعام ، وروي : « غُصَص » جمع غُصّة ، وهي الشجا ، وهذا مثل قول بعضهم : المنحة فيها مقرونة بالمحنة ، والنعمة مشفوعة بالنقمة . ومراد أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه : أنّ نعيم الدنيا لا يدوم ، فإذا أحسنتْ أساءت ، وإذا أنعمت أنقمت .
ثم قال : « لا ينالون منها نعمة إلاّ بفراق أُخرى » ، هذا معنى لطيف ، وذلك أنّ الإنسان لا يتهيّأ له أن يجمع بين الملاذّ الجسمانية كلّها في وقت ، فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا ، وحال ما يشرب لا يأكل ، وحال ما يركب للقَنَص والرّياضة ، لا يكون جالساً على فراش وثير ممهد ؛ وعلى هذا القياس فلا يأخذ في ضَرْب من ضُروب الملاذّ إلاّ وهو تارك لغيره منها .
ثم قال : « ولا يعمَّر معمَّر منكم يوماً من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله » ، وهذا أيضا لطيف ؛ لأنّ المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلاّ بعد أن قضى يوم السبت وقَطَعه ، ويوم السبت من أيام عُمره ، فإذا قد هدم من عمره يوماً ، فيكون قد قرب إلى الموت ؛ لأ نّه قد قطع من المسافة جزءا .
ثم قال: « ولا تجدّد له زيادة في أكله إلاّ بنفاذ ما قبلها من رزقه »، وهذا صحيح فإنّ فسّرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين ، فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلاّ وقد فرغ من اللقمة التي قبلها ، فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86553
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي