395
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

112

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلاموَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ . قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا ، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا . دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا ، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا ، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا ، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا ، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا . لَمْ يُصْفِهَا اللّهُ تَعَالَى لاوْلِيَائِهِ ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَنْ أَعْدَائِهِ . خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ . وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ . فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ ، وَعُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ ، وَمُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ!
اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طِلبتِكُمْ ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ ، وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ . إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا ، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا . قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الاْجَالِ ، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآمَالِ ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنْ الاْخِرَةِ ، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآجِلَةِ ، وَإِنَّمَا أَنْتُم ؟ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللّهِ ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ . فَلاَ تَوَازَرُونَ وَلاَ تَنَاصَحُونَ ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ وَلاَ تَوَادُّونَ .
مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ ! وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ ، وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ !! كَأَ نَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ ، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ . وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ . قَدْ تَصَافَيْتُمْ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
394

111

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ملك الموت وتوفّيه الأنفسهَلْ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً ؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً ؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْض جَوَارِحِهَا ؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا ؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا!
كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ!

الشّرْحُ :

المَلك أصله « مألَك » بالهمز ، ووزنه « مفعل » والميم زائدة ؛ لأ نّه من الألوكة والأُلوك ، وهي الرسالة ، ثم قلبت الكلمة وقدمت اللام فقيل ملأك . ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال ، فقيل : « مَلَك » ، فلما جمع ردت الهمزة إليه ، فقالوا : ملائكة وملائك . والتوفّي : الإماتة وقبض الأرواح ، قال اللّه تعالى : « اللّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا »۱ .
والتقسيم الذي قسّمه في وفاة الجنين حاصر ؛ لأ نّه مع فرضنا إيَّاه جسماً يقبض الأرواح التي في الأجسام ، إمّا أن يكون مع الجنين في جوف أُمّه فيقبض روحَه عند حضور أجله ، أو خارجاً عنها . والقسم الثاني ينقسم قسمين : أحدهما أن يَلِجَ جوف أُمّه لقبْض روحه فيقبضها ، والثاني أن يقبضَها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها ؛ وذلك بأن تطيعه الرُّوح وتكون مسخّرة إذا أراد قبضها امتدّت إليه فقبضها . وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها ، ولو قسمها واضع المنطق لما زاد .
ثم خرج إلى أمر آخرَ أعظم وأشرف مما ابتدأ به ، فقال : « كيف يصف إلهه مَنْ يعجز عن وصف مخلوق مثله » ! وإلى هذا الغرض كان يترامَى ، وإياه كان يقصد ؛ وإنما مهّد حديث الملك والجنين توطئة لهذا المعنى الشريف ، والسرّ الدقيق .

1.سورة الزمر ۴۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86629
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي