29
مكاتيب الأئمّة ج2

قصّة الخِرّيت بن راشد وما جرى فيها من المكاتبات :

قال ابن هلال الثَّقَفيّ ، وروى مُحَمَّد بن عبد اللّه بن عثمان ، عن أبي سيف ، عن الحارث بن كَعْب الأزْدِيّ ، عن عمِّه عبد اللّه بن قعين الأزْدِيّ :
كان الخِرّيت بن راشد النَّاجي أحد بني ناجية قد شهد مع علي عليه السلام صفِّين ، فجاء إلى علي عليه السلام بعد انقضاء صفِّين وبعد تحكيم الحَكَمين ، في ثلاثين من أصحابه ، يمشي بينهم حَتَّى قام بين يديه ، فقال : لا واللّه ، لا أطيع أمرك ، ولا أصلّي خلفك ، وإنّي غدا لمفارق لك .
فقال له : « ثكلتك أمّك ؛ إذا تنقض عهدك ، وتعصي ربّك ، ولا تضرّ إلاَّ نفسك، أخبرني لِمَ تفعل ذلك ؟ »
قال : لأنَّك حكمت في الكتاب ، وضعفت عن الحقّ ، إذ جدّ الجدّ ، وركنت إلى القوم الَّذين ظلموا أنفسهم ، فأنّا عليك رادّ وعليهم ناقم ، ولكم جميعا مُباينٌ .
فقال له علي عليه السلام : « ويحك هلمّ إليَّ ، أُدارسك وأناظرك في السُّنن ، وأُفاتحك أُمورا من الحقّ ، أنَّا أعلم بها منك ، فلعلّك تعرف ما أنت الآن له منكر ، وتبصر ما أنت الآن عنه عمٍ وبه جاهل » .
فقال الخِرّيت : فإنّي غاد عليك غدا .
فقال علي عليه السلام : « اغد ولا يستهوينَّك الشَّيطان ، ولا يتقحمن بك رأي السُّوء ، ولا يستخفنَّك الجهلاء الَّذين لا يعلمون ، فو اللّه إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت منّي لأَهدينَّكَ سبيل الرَّشاد » .
فخرج الخِرِّيت من عنده منصرفا إلى أهله .
قال عبد اللّه بن قعين : فعجلت في أثره مسرعا ، وكان لي من بني عمّه صديق ، فأردت أن ألقى ابن عمّه في ذلك ، فأُعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين ، وآمر ابن عمّه أن يشتدّ بلسانه عليه ، وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته ، ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدُّنيا وآجل الآخرة .
قال : فخرجت حَتَّى انتهيت إلى منزله وقد سبقني فقمت عند باب دار ، فيها رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين عليه السلام ، فواللّه ما رجع ولا ندم على ما قال لأمير المؤمنين ، وما ردّ عليه ، ولكنّه قال لهم : يا هؤلاء ، إنّي قد رأيت أن أُفارق هذا الرَّجل ، وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ، ولا أرى المفارقة ، فقال له أكثر أصحابه : لا تفعل حَتَّى تأتيه ، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه ، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه !
قال لهم : نِعْمَ ما رأيتم ؛ قال : فاستأذنت عليهم فأذنوا لي ، فأقبلت على ابن عمّه ـ وهو مدرك بن الرَّيان النَّاجي ، وكان من كبراء العرب ـ فقلت له : إنَّ لك عليَّ حقّا لإحسانك وودّك ، وحقّ المسلم على المسلم . إنَّ ابن عمَّك كان منه ما قد ذكر لك ، فاخلُ به فاردد عليه رأيه ، وعظِّم عليه ما أتى ؛ واعلم أنّي خائف إن فارق
أمير المؤمنين أن يقتلك ونفسه وعشيرته ، فقال : جزاك اللّه خيرا من أخ ! إن أراد فراق أمير المؤمنين عليه السلام ففي ذلك هلاكه ، وإن اختار مناصحته والإقامة معه ففي ذلك حظُّه ورشده .
قال : فأردت الرُّجوع إلى علي عليه السلام لأُعلمه الَّذي كان ؛ ثُمَّ اطمأننت إلى قول صاحبي ، فرجعت إلى منزلي ، فبتّ ثُمَّ أصبحت ، فلمَّا ارتفع النَّهار أتيت أمير المؤمنين عليه السلام ، فجلست عنده ساعة ، وأنا أريد أن أحدّثه بالَّذي كان على خلوة ، فأطلت الجلوس ، ولا يزداد النَّاس إلاَّ كثرة ، فدنوت منه ، فجلست وراءه ، فأصغى إليَّ برَأسه ، فأخبرته بما سمعته من الخِرِّيت ، وما قلت لابن عمّه ، وما ردّ عليَّ ، فقال عليه السلام : « دعه ، فإن قبل الحقّ ورجع عرفنا له ذلك ، وقبلناه منه » ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه ؟ فقال : « إنّا لو فعلنا هذا بكل من يتّهم من النَّاس ملأنا ، السُّجون منهم ، ولا أراني يسعني الوثوب بالنَّاس ، والحبس لهم ، وعقوبتهم حَتَّى يظهروا لي الخلاف » . قال : فسكتّ عنه وتنحّيت ، فجلست مع أصحابي هنيهة ، فقال لي عليه السلام : « ادن منّي » ، فدنوت ، فقال لي مُسِرّا : « اذهب إلى منزل الرَّجل فاعلم ما فعل ؛ فإنَّه قلَّ يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه السَّاعة »
فأتيت إلى منزله ، فإذا ليس في منزله منهم ديّار ، فدرت على أبواب دور أخرى ، كان فيها طائفة من أصحابه ، فإذا ليس فيها داع ولا مجيب . فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال لي حين رآني : « أ وطنوا فأقاموا ، أم جبنوا فظعنوا ؟ »
قلت : لا بل ظعنوا ، فقال : « أبعدهم اللّه كما بعدت ثمود ! أما واللّه ِ لو قَدْ أُشرِعَتْ لَهُمُ الأَسنَّةُ ، وصُبَّت علَى هامِهِمُ السُّيوفُ ، لَقدْ نَدِموا ؛ إنّ الشَّيطانَ قَد استهواهُم وأَضلَّهُم ، وهو غَدا مُتبرّئٌ مِنهُم ، ومُخَلٍّ عَنهُم » ؛
فقام إليه زياد بن خصفة ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ إنّه لو لم يكن من مضرّة
هؤلاء إلاّ فراقهم إيّانا لم يَعظُم فقدُهم علينا ، فإنّهم قلّما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، وقلَّما ينقصون من عددنا بخروجهم منّا ، ولكنّا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فائذن لي في اتّباعهم حَتَّى أردّهم عليك إن شاء اللّه .
فقال له عليه السلام : « فَاخْرُجْ فِي آثارِهِم راشِدا » ؛ فلمَّا ذهب ليخرج قال له : « وهَلْ تَدرِي أيْنَ تَوجَّهَ القَوْمُ » ؟ قال : لا واللّه ؛ ولكنّي أخرج فأسأل وأتبع الأثر ، فقال : « اخرُجْ رحِمَكَ اللّه ُ حَتَّى تَنزِلَ دَيْرَ أبي مُوسى ، ثُمَّ لا تَبْرحْهُ حَتَّى يأتِيَكَ أمْرِي ؛ فَإنَّهُم إنْ كانُوا خَرجُوا ظاهِرينَ بارِزينَ للناسِ في جَماعَةٍ ؛ فَإنَّ عُمَّالي سَتْكتُبُ إليَّ بِذلِكَ ، وإنْ كانُوا مُتَفرِّقِينَ مُسْتَخْفِين ؛ فَذلِكَ أخفَى لَهُم ، وسأَكْتُبُ إلى مَن حَوْلِي مِن عُمَّالي فِيهِم » .
فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمّال :


مكاتيب الأئمّة ج2
28

152

كتابه عليه السلام إلى العمّال

۰.« مِنْ عَبْدِ اللّه ِ عليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ ، إلى مَن قُرِئ عَليْهِ كِتابي هذا مِنَ العُمَّالِ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فإنَّ رجالاً لنا عندهم تبعة ، خرجوا هُرَّابا نَظُنُّهم خَرجُوا نَحوَ بِلادِ البَصْرَةِ ، فاسأل عَنهُمْ أهلَ بِلادِكَ ، واجْعَل عَليْهِم العُيون في كلِّ ناحيةٍ مِنْ أرضِكَ ، ثُمَّ اكتُبْ إليَّ بِما يَنْتَهي إليْكَ عَنهُم . وَالسَّلامُ »

فخرج زياد بن خَصفة حَتَّى أتى داره ، وجمع أصحابه فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثُمَّ قال : يا معشر بَكر بن وائل ، إنَّ أمير المؤمنين نَدَبني لأمر من أموره مهمّ له ، وأمرني بالانكماش فيه بالعَشِيرَةِ ، حَتَّى آتي أمره ؛ وأنتم شيعته وأنصاره وأوثق حَيٍّ من أحياءِ العرب في نفسه ، فانتدبوا معي السَّاعةَ ، وعجِّلوا . فو اللّه ما كان إلاَّ ساعة حَتَّى اجتمع إليه مئة وثلاثون رجلاً ، فقال : اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء ؛ فخرج حَتَّى قطع الجسر ، ثُمَّ أتى دير أبي موسى فنزله ، فأقام به بقية يومه ذلك ، ينتظر أمر أمير المؤمنين عليه السلام .
قال إبراهيم بن هلال : فحدَّثني مُحَمَّد بن عبد اللّه ، عن ابن أبي سيف ، عن أبي الصَّلت التَّيميّ ، عن أبي سعيد ، عن عبد اللّه بن وأل التَّيمي ، قال : إنّي لعند أمير المؤمنين ؛ إذا فيج ۱ قد جاءه يسعى بكتاب من قَرَظَةَ بن كَعْب بن عَمْرو الأنْصاريّ ـ وكان أحد عمّاله ـ فيه :
لِعَبدِ اللّه ِ علِيٍّ أمير المؤمنين مِن قَرَظَةَ بن كَعْب ، سلام عليك ؛ فإنّي أحمدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إله إلاَّ هو ؛ أمَّا بعدُ :
فإنّي أخبر أمير المؤمنين ، أنّ خيلاً مرّت من قِبَل الكوفة متوجّهة نحو نفّر ، وأنَّ رجلاً من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلَّى ، يقال له : زاذان فروخ ؛ أقبل من عند أخوال له فلقوه ، فقالوا له : أ مسلم أنت أم كافر ؟ قال : بل مسلم ، قالوا : فما تقول في عليّ قال : أقول فيه خيرا ؛ أقول إنَّه أمير المؤمنين عليه السلام وسيّد البشر ووصيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . فقالوا : كفرت يا عدو اللّه ! ثُمَّ حملت عليه عصابة منهم ، فقطّعوه بأسيافهم ، وأخذوا معه رجلاً من أهل الذِّمة يهوديّا ، فقالوا له : ما دينك ؟ قال : يهوديّ ، فقالوا : خلُّوا سبيل هذا ، لا سبيل لكم عليه ، فأقبل إلينا ذلك الذِّميّ ، فأخبرنا الخبر ، وقد سألت عنهم ، فلم يخبرني أحد عنهم بشيء ، فليكتب إليَّ أمير المؤمنين فيهم برَأي أنتهِ إليه ، إن شاء اللّه ۲ .

1.الفيج : رسول السُّلطان على رجله ؛ فارسي معرب « پيك » ( تاج العروس : ج۲ ص۸۹ ).

2.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۳ ص ۱۳۰.

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج2
    المساعدون :
    فرجي، مجتبي
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 69798
الصفحه من 528
طباعه  ارسل الي