419
مكاتيب الأئمّة ج1

مكاتيب الأئمّة ج1
418

خطبة علي في التَّحكيم

۰.وفي حديث عمر بن سعد ، لمَّا رفع أهل الشَّام المصاحف على الرِّماح يَدعون إلى حُكمِ القرآن ، قال عليٌّ عليه السلام :« عِبادَ اللّه ِ إنِّي أحقُّ مَن أجابَ إلى كتابِ اللّه ِ ، ولكنَّ معاوية َ ، وعَمْرو بنَ العاص ، وابن أبي مُعَيط ، وحَبِيبَ بن مَسْلَمَة ، وابنَ أبي سَرْح ٍ ، ليسوا بأصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ ، إنِّي أعْرَفُ بِهِم مِنكُم ، صَحِبْتُهُم أطفالاً ، وصَحِبتُهم رِجالاً ، فكانوا شرَّ أطفالٍ ، وشَرَّ رِجالٍ ، إنَّها كَلِمَةُ حقٍّ يُراد بِها باطِلٌ ، إنَّهم واللّه ِ ، ما رَفَعُوها أنَّهم يَعرِفُونها ويعملون بها ، ولكنَّها الخَديعةُ ، والوَهَنُ ، والمَكِيدَةُ .
أعِيرُوني سواعِدَكُم وجَماجمَكُم ساعَةً واحِدَةً ، فَقدْ بلَغَ الحَقُّ مَقطَعَهُ ، ولَمْ يَبقَ أن يُقطَعَ دابِرُ الَّذِين ظلَموا » .

فجاءَه زُهاءُ عشرين ألفا مقنَّعين في الحديد شاكِي السِّلاحِ ، سيُوفُهم على عواتقِهِم ، وقد اسودَّتْ جِباهُهُم مِنَ السُّجودِ ، يتقدَّمهم مِسْعَرُ بن فَدَكيّ ، وزَيْد بن حُصَيْن ، وعصابةٌ من القرّاء الَّذِين صاروا خوارج من بعدُ ، فنادَوه باسمه لا بإمرةِ المونين : يا عليّ ، أجبِ القومَ إلى كتاب اللّه إذْ دُعيت إليه ، وإلاَّ قتلناك ، كما قتَلْنا ابنَ عفَّان ، فواللّه ِ ، لَنَفعَلنَّها إنْ لم تُجِبهم .
فقال لهم : « ويْحَكُم ، أنا أوَّلُ مَن دَعا إلى كتابِ اللّه ِ ، وأوَّلُ مَن أجابَ إليهِ ، وليسَ يَحِلُّ لِي ، ولا يَسعُنِي في ديني أن أُدعَى إلى كتابِ اللّه ِ فَلا أَقبلُه ، إنِّي إنَّما أقاتِلُهم ليَدِينوا بِحُكْمِ القُرآنِ ، فإنَّهُم قد عَصَوا اللّه َ فِيما أمرَهُم ، ونَقَضُوا عَهْدَه ، ونَبَذُوا كِتابَهُ ، ولَكنِّي قَد أعلَمْتُكُم أنَّهُم قَد كادُوكُم ، وأنَّهم لَيسوا العَمَلَ بِالقُرآنِ يُرِيدُونَ » .
قالوا : فابعث إلى الأشْتَر ليأتيك ، وقد كان الأشْتَر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عَسْكَرِ مُعاوِيةَ لِيَدْخُلَهُ . ۱
قال نَصْر : فحدَّثني فضيل بن خَدِيْج ، عن رَجُلٍ مِنَ النَّخَع ، قال : رأيت إبراهيمَ بن الأشْتَر دخل على مُصْعَب بن الزُبَيْر فسأله عن الحال كيف كانت ، فقال : كنت عند عليّ حين بعث إلى الأشْتَر أن يأتيه ، وقد كان الأشْتَر أشرف على معسكر معاوية ليدخله ، فأرسل إليه عليٌّ يزيد بن هانئ : « أن ائتِني » . فأتاه فبلَّغه .
فقال : الأشْتَر ائته ! فقل له : ليس هذه بالساعة الَّتي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إنِّي قد رجوت اللّه أن يفتح لي فلا تعْجِلْنِي .
فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ فأخبره ، فما هو إلاَّ أن انتهى إلينا حَتَّى ارتفع الرَهَج ، وعلَتِ الأصواتُ مِن قِبَلِ الأشْتَر ، وظهرت دلائل الفتح والنَّصر لأهل العِراق ، ودلائل الخِذلان والإدبار على أهل الشَّام . فقال له القوم : واللّه ، ما نراك إلاَّ أمرتَه بقتال القوم ، قال :
« أ رأيتموني سارَرْتُ رَسُولي إليه ؟ أليس إنَّما كلّمته على رؤوسكم عَلانِيةً وأنتم تسمعون » .
قالوا : فابعث إليه فَليأْتِكَ ، وإلاَّ فو اللّه اعتزلْناك .
قال : « ويحك يا يزيد ، قل له أقبِلْ إليَّ ، فإنَّ الفتنة قد وقعَتْ » .
فأتاه فأخبره ، فقال له الأشْتَر : أ لِرفع هذه المصاحف ؟ قال : نعم ، قال :أما واللّه ، لقد ظننت أنَّها حين رُفعت ستُوقع اختلافا وفرقة ، إنَّها من مشورة ابن النَّابغة ـ يعني عَمْرو بن العاص ـ قال : ثُمَّ قال ليزيد : ويحك ألا ترى إلى ما يَلقَون ، ألا ترى إلى الَّذي يَصنعُ اللّه لنا ، أيبتغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ !
فقال له يزيد : أتحبُّ أنَّك ظفرت هاهنا وأنَّ أمير المونين بمكانه الَّذي هو به يُفرَج عنه ، ويُسلَّم إلى عدوِّه ؟ !
قال : سبحان اللّه ، لا واللّه ما أحبُّ ذلك .
قال : فإنَّهم قالوا : لتُرسِلنَّ إلى الأشْتَر فليَأتينَّك ، أو لَنقتُلنَّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنُسْلمنَّك إلى عدوِّك .
قال : فأقبل الأشْتَر حَتَّى انتهى إليهم ، فصاح فقال : يا أهل الذُلِّ والوَهْنِ ، أحين عَلَوْتم القومَ فظنُّوا أنَّكم لهم قاهرون ورفعوا المصاحف يَدعونكم إلى ما فيها ؟ ! وقد واللّه ، تركوا ما أمر اللّه ُ بهِ فيها ، وسُنَّة مَن أُنزِلَت علَيهِ ، فلا تجيبوهم . أمهلوني فُوَاقا ۲ ، فإنِّي قد أحسَستُ بالفَتحِ .
قالوا : لا . قال : فأمهلوني عَدْوةَ الفَرسِ ، فإنِّي قد طمعت في النَّصر .
قالوا : إذنْ ندخلَ معك في خطيئتك .
قال : فحدِّثوني عنكم ـ وقد قُتل أماثِلُكم وبقي أراذلكم ـ متى كنتم محقِّين ، أحِين كنتم تقتلون أهل الشَّام ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقُّون ؟ فقتلاكم إذن الَّذِين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم في النَّار . قالوا : دعنا مِنكَ يا أشْتَرُ ، قاتلناهم في اللّه ِ وندع قِتالَهُم في اللّه ِ ، إنَّا لسنا نُطيعُك فاجتنِبْنا .
قال : خُدِعْتم واللّه ِ فانخدعتم ، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السُود ، كنَّا نظنُّ أنَّ صلاتكم زَهادةٌ في الدُّنيا وشوقٌ إلى لقاء اللّه ، فلا أرى فِراركم إلاَّ إلى الدُّنيا من الموت . ألا فقُبْحا يا أشباه النِّيبِ الجَلاَّلة ، ما أنتم برَائين بعدها عِزَّا أبدا ، فابعَدوا كما بعِد القومُ الظَّالمون .
فَسبُّوه وسبَّهم ، وضربوا بسياطهم وجهَ دابّتهِ ، وضرب بسوطه وُجوهَ دَوَابِّهِم ، فصاح بِهِم عليٌّ فكَفُّوا .
وقال الأشْتَر : يا أمير المونين ، احمل الصَّفَّ على الصَّفِّ يُصْرَع القوم .
فتصايَحوا : أنَّ عليَّا أمير المونين قد قبِل الحكومة ، ورضِي بحُكم القرآن ، ولم يَسعْه إلاَّ ذلك .
قال الأشْتَر : إن كان أمير المونين قد قبِل ورضي بِحُكْمِ القرآن ، فقد رضيِتُ بما رضِي أمير المونين .
فأقبل النَّاس يقولون : قد رضِي أمير المونين ، قد قَبِل أمير المونين . وهو ساكتٌ لا يَبِضُّ ۳ بِكَلمةٍ ، مُطرِقٌ إلى الأرض . ۴
[ لمَّا قبل أمير المؤمنين ذلك ، كرها اتفق أهل الشَّام على عَمْرو بن العاص حكما ] فقال الأشْعَث والقُرَّاء الَّذِين صاروا خوارجَ فيما بعد : فإنَّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشْعَرِيّ .
فقال لهم عليّ : « إنِّي لا أرضى بِأَبي مُوسى ، ولا أرى أن أُوَلِّيه » .
فقال الأشْعَث ، وزَيْد بن حُصَيْن ، ومِسْعَر بن فَدَكيّ في عصابة من القُرَّاء : إنَّا لا نرضى إلاَّ به ، فإنَّه قد حذَّرنا ما وقعنا فيه .
قال عليّ : « فَإنَّهُ ليس لِي بِرِضا ، وقد فارقَني وخَذَّل النَّاس عنِّي ثُمَّ هربَ ، حَتَّى أمَّنته بعد أشهر . ولكِنْ هذَا ابنُ عبَّاسٍ أُولِّيه ذلِكَ » .
قالوا : واللّه ، ما نبالي ، أ كنتَ أنت أو ابن عبَّاس ، ولا نريد إلاَّ رجلاً هو منك ومن
معاوية سواءٌ ، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر .
قال عليّ : « فإنِّي أجعل الأشْتَر » .
قال نصر : قال عَمْرو فحدَّثني أبو جناب ، قال : قال الأشْعَث : وهل سَعَّر الأرض علينا غيرُ الأشْتَر ، وهل نحن إلاَّ في حكم الأشْتَر . . .
وفي حديث عمر ، قال : قال عليّ : « قد أبيتُم إلاَّ أبا موسى » ؟ قالوا : نعم .
قال : « فاصنَعُوا ما أرَدْتُم » . ۵
قال نصر : وفي كتاب عمر بن سعد : « هذا ما تقاضى عليهِ علِيٌّ أمير المونين » ، فقال معاوية : بئس الرَّجل أنا إن أقررتُ أنَّه أمير المونين ثُمَّ قاتلتُه .
وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنَّما هو أميركم ، وأمَّا أميرنا فلا .
فلمَّا أُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمحُ اسم إمرة المونين عنك ؛ فإنِّي أتخوَّف إن محوتَها ألاَّ ترجع إليك أبدا ، لا تمحُها وإن قَتَل النَّاس بعضهم بعضا .
فأبى مَلِيَّا من النَّهار أن يمحُوَها ، ثُمَّ إنَّ الأشْعَث بن قَيْس جاء ، فقال : امحُ هذا الاسم . فقال عليّ :
« لا إله إلاَّ اللّه ، واللّه ُ أكبر ، سُنَّةٌ بِسُنَّة ، أمَا واللّه ِ ، لَعَلَى يَدِي دارَ هذا يَومَ الحُدَيبية ، حين كتبتُ الكِتابَ عَن رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله :
هذا ما تصالَحَ عليهِ مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وسُهيلُ بنُ عمرو ، فقال سُهيل : لا أُجيبُكَ إلى كتابٍ تسمّي ( فيه ) رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، ولَو أعلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللّه ِ لَمْ أقاتِلْكَ ، إنِّي إذا ظَلَمتُكَ إن مَنَعتُكَ أن تَطُوفَ بِبَيتِ اللّه ِ وأنتَ رَسُولُ اللّه ِ ، ولكن اكتب مُحَمَّد بن عبد اللّه أُجبْكَ . فقال محمَّد صلى الله عليه و آله : يا عليّ إنِّي لَرسُولُ اللّه ِ ، وإنِّي لمُحَمَّد بن عبد اللّه ، ولَن يَمحُوَ عنِّي الرِّسالَةَ كِتابي إليهِمْ مِن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللّه ِ ، فاكتب : مُحَمَّدُ بن عبد اللّه . فراجَعَني المُشركونَ في هذا إلى مُدَّةٍ .
فاليوم أكتبُها إلى أبنائهم كما كَتَبها رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله إلى آبائِهِم سُنَّةً ومَثَلاً » .

فقال عَمْرو بن العاص : سُبحانَ اللّه ِ ، ومثل هذا شبَّهتَنا بالكفَّار ونحن مونون .
فقال له عليّ : « يا بنَ النَّابِغَةِ ، ومتى لَم تَكُنْ للكافِرينَ وَلِيَّا ولْلِمُسلمِينَ عَدُوَّا ؟ وهل تُشبِهُ إلاَّ أُمَّكَ الَّتي وَضَعَت بِكَ » .
فقام عمرو ، فقال : واللّه ِ ، لا يجمع بيني وبينك مَجلِسٌ أبدا بعدَ هذا اليوم .
فقال عليّ : « واللّه ، إنِّي لأَرجو أن يُظهِرَ اللّه ُ عَلَيكَ وعلَى أصحابِكَ » .
قال : وجاءت عِصابَةٌ قد وضعوا سُيُوفَهم علَى عواتقهم ، فقالوا : يا أمير المونين مُرْنا بما شئت .
فقال لهم ابن حُنَيْف : أيُّها النَّاس ، اتَّهِموا رَأيَكُم ، فَواللّه ِ ، لقد كنَّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم الحديبية ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، وذلك في الصُّلح الَّذي صالَح عليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه و آله . ۶
[ وعلى كل حال ، لقد ابتلي أمير المؤمنين عليه السلام بأُمور :
منها أنَّه ابتلي بأعداء لا يعتنقون مبدءا ، ولا يعتقدون أمرا من مبدأ ومعاد ، ولا يلتزمون بقانون أخلاقي ، ولا يتركون ظلما ، ولا جورا ، ولا جناية قليلاً ولا كثيرا يقدرون عليه كعَمْرو بن العاص ، ومروان ، وبُسْر بن أرطاة ، وزياد . . . ] .
قال أبو جَعْفَر الإسكافي مُحَمَّد بن عبد اللّه المعتزلي : فلم يؤت عليّ رضى الله عنهفي أموره لسوء تدبير كان منه ، أو لغلط في رأي ، غير أنَّه كان يؤثر الصَّواب عند اللّه في مخالفة الرَّأي ، ولا يؤثر الرَّأي في مخالفة رضا ربّه .
وقد كانت له خاصَّة من أهل البصائر واليقين من المهاجرين والأنصار ، مثل ابن عبَّاس ، وعَمَّار ، والمقداد ، وأبي أيّوب الأنْصاريّ ، وخُزَيْمَة بن ثابت ، وأبي الهَيْثم بن التّيهان ، وقَيْس بن سَعْد بن عُبادَة الأنْصاريّ ، ومَن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة والمعرفة ، فأفنتهم الحروب واخترمهم الموت .
وحصل معه من العامَّة قوم لم يتمكَّن العلم من قلوبهم ، تبعوه مع ضعف البصيرة واليقين ، ليس لهم صبر المهاجرين ، ولا يقين الأنصار ، فطالت بهم تلك الحروب ، واتصلت بعضها ببعض ، وفني أهل البصيرة واليقين ، وبقي من أهل الضَّعف في النِّيَّة ، وقصر المعرفة من قد سئموا الحرب ، وضجروا من القتل ، فدخلهم الفشل ، وطلبوا الرَّاحة ، وتعلَّقوا بالأعاليل ، فعندها قام فيهم خطيبا ، فقال :
( أيُّها النَّاسُ المُجتَمِعةُ أبدانُهم ، المُختلِفَةُ أهواؤُهُم ، كَلامُكُم يُوهِي الصُمَّ الصِّلابَ ، وفِعلُكُم يُطمِعُ فِيكُم الأَعداءَ ، تقولونَ في المجالِسِ كَيْت وكَيْت ، فإذا جاء القِتالُ قُلتُم : حيدي حَيادِ . . . ) .۷
[ أقول : لمَّا انتهت حرب صفِّين إلى تحكيم الحَكَمَين ، ومتاركة الحرب ، وكتب
الصُّلح على خلاف رأي أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه المخلصين ، شرع معاوية في الإغارة على العِراق والحجاز واليمن وقتل شيعة علي عليه السلام ، وتهديم الأمن العام في البلاد الاسلامية ، وقتل النُّفوس حَتَّى الأطفال ونهب الأموالِ .
فأوّل من أمره معاوية ُ بهذا العَملِ الشَّنيعِ غير الإنساني والإسلامي ، هو الضَّحَّاك بن قَيْس فأتى الثَعْلبية وأغار على الحاج ، وبعث أمير المؤمنين عليه السلام على أثره حُجْر بن عديّ رضى الله عنه في أربعة الآفٍ حَتَّى طردَهُ عَنِ بلادِ أميرِ المُؤمنينَ عليه السلام .
قال الثَّقَفيّ : أوّل غارة كانت بالعِراق ، غارة الضَّحَّاك بن قَيْس على أهل العِراق ، وكانت بعد ما حكم الحكمان وقبل قتل أهل النَّهر ، وذلك أنَّ مُعاوِيةَ لمَّا بلغه أنَّ عليَّا عليه السلام بعد تحكيم الحكَمَين تحمَّل إليه مقبلا فهاله أمره فخرج من دمشق معسكرا ، وبعث إلى كور الشَّام فصاح فيها : أن عليَّا قد سار إليكم وكتب إليهم نسخة واحدة فقرأت على النَّاس :
« أمَّا بعدُ ؛ فإنَّا كنَّا قد كتبنا بيننا وبين عليٍّ كتابا ، وشرطنا فيه شُرُوطا ، وحكَّمنا رجلين . . . »
فاجتمع إليه النَّاس من كلِّ كورة ، وأرادوا المسير إلى صفِّين ، فاستشارهم ، وقال : إنَّ عليَّا قد خرج إليكم مِنَ الكُوفَةِ ، وعَهْدُ العاهِدِ بهِ أنَّه فارَقَ النُّخيلَةَ .
فقال له حَبِيب بن مَسْلَمَة : فإنّي أرى أن نخرج حَتَّى ننزل منزلنا الَّذي كنّا فيه ؛ فإنه منزل مبارك قد متعنا اللّه به ، وأعطانا من عدونا فيه النَّصَف ، وقال له عَمْرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود، حَتَّى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإن ذلك أقوى لجندك ، وأذلُّ لِأهلِ حَرْبِكَ .
فقال معاوية : واللّه إني لأعرف أنَّ الرَّأي الَّذي تقول ؛ ولكِنَّ النَّاس لا يطيقون
ذلك ، قال عمرو : أنَّها أرض رفيعة .
فقال معاوية : واللّه إنّ جهد النَّاس أن يبلغوا منزلهم الَّذي كانوا به ، يعني صفِّين .
فمكثوا يجيلون الرَّأي يومين أو ثلاثة ، حَتَّى قدمت عليهم عيونهم : أن عليَّا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة ، وأنَّه قد رجع عنكم إليهم فكثر سرور النَّاس بانصرافه عنهم ؛ وما أُلقي من الخلاف بينهم .
فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه منتظرا لما يكون من عليّ وأصحابه ، وهل يقبل عليّ بالنَّاس أم لا ؟ فما برح معاوية حَتَّى جاءه الخبر أن عليَّا قد قتل تلك الخوارج وأراد بعد قتلهم أن يقبل إليه بالنَّاس وأنهم استنظروه ودافعوه ، فسُرَّ بذلك هو ومن قبله من النَّاس .
عن عبد الرَّحمن بن مَسْعَدَة الفَزَارِيّ قال : جاءنا كتاب عَمَّار بن عُقْبَة بن أبي مُعَيط من الكوفة ونحن معسكرون مع معاوية ، نتخوف أن يفرغ عليّ من خارجته ثم يقبل إلينا ونحن نقول : إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الَّذي نستقبله به مكاننا الَّذي لقيناه فيه العام الماضي، وكان في كتاب عَمَّارة :
أمَّا بعدُ ؛ فإن عليَّا خرج عليه عِلِّيةُ أصحابه ونُسَّاكهم فخرج إليهم فقتلهم ، وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ووقعت بينهم العداوة ، وتفرَّقوا أشد الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد اللّه والسَّلام .
قال : فقرأه معاوية عليّ وعلى أخيه وعلى أبي الأعْوَر السَّلميّ ، ثُمَّ نظر إلى أخيه عُتْبَة وإلى الوليد بن عُقْبَة ، وقال للوليد : لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا ، قال : فضحك الوليد وقال : إنّ في ذلك أيضا لنفعا . . .
قال : فعند ذلك دعا معاوية الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ وقال له : سر حَتَّى تمرَّ
بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ، ولا تقيمن لخيل بلغك أنَّها قد سرَّحت إليك لتلقاها فتقاتلها ، فسرَّحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل .
قال : فأقبل الضَّحَّاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب ، حَتَّى مرَّ بالثَّعلبيَّة فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثُمَّ أقبل فلقي عَمْرو بن عميس بن مسعود الذُّهْلِيّ ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ف قتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناس من أصحابه .
قال أبو رَوْق : فحدَّثني أبي أنَّه سمع عليَّا عليه السلام ـ وقد خرج إلى النَّاس ـ وهو يقول على المنبر :
« يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصَّالح عَمْرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف ، اخرجوا فقاتلوا عدوَّكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين » .
قال : فردُّوا عليه ردَّا ضعيفا ورأى منهم عجزا وفشلا فقال :
« واللّه ِ لَوَدِدْتُ أنَّ لي بِكُلِّ مِئةِ رَجُلٍ مِنْكُم رَجُلاً مِنهُم ، وَيْحَكُم اخرُجُوا مَعِي ثُمَّ فرّوا عَنِّي إن بدا لكم ، فو اللّه ما أكرَهُ لِقاءَ ربِّي علَى نِيَّتي وبَصِيرَتي ، وفي ذلِكَ رَوحٌ لِي عَظِيمٌ وفَرَجٌ مِنْ مُناجاتِكُم ومُقاساتِكُم ومُداراتِكُم مِثلَ ما تُداري البكارُ العُمْدَةَ والثِّيابَ المُتهتِرَةَ، كُلَّما خِيطَتْ مِن جَانِبٍ تَهتّكَتْ علَى صاحِبِها مِن جانِبٍ آخَرَ » .

ثُمَّ نزل فخرج يمشي حَتَّى بلغ الغَرِيَيَّن ، ثُمَّ دعا حُجْر بن عَدِيّ الكِنْديّ من خيله فعقد له راية على أربعة آلاف ، ثُمَّ سرّحه فخرج حَتَّى مرَّ بالسَّماوة ، وهي أرض كلب ، فلقي بها إمرأ القَيس بنَ عَدِيّ بنَ أوس بن جابر بن كَعْب بن عليم
الكلبي ، أصهار الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فكانوا أدلاّءه على طريقه وعلى المياه ، فلم يزل مُغِذَّا في أثر الضَّحَّاكِ حَتَّى لَقِيَهُ بِناحِيَةِ تدمر ، فواقفه فاقتتلوا ساعة ، فقتل من أصحاب الضَّحَّاك تسعة عشر رجلاً ، وقتل من أصحاب حُجْر رجُلانِ : عبد الرَّحمن وعبد اللّه الغامدي ، وحجز اللَّيل بينهم فمضى الضَّحَّاك ، فلمَّا أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابِهِ أثرا وكان الضَّحَّاكُ يقولُ بعد :
أنا الضَّحَّاك بن قَيس ، أنا أبو أنيس ، أنا قاتل عَمْرو بن عميس .
عن مِسْعَر بن كِدام قال : قال عليّ عليه السلام : « لَوَدَدْتُ أنَّ لِي بأهْلِ الكُوفَةِ ـ أو قال بأصحابي ـ ألفا مِن بَني فِراس » .
عن زَيْد بن وهب قال : كتب عَقِيل بن أبي طالب رضى الله عنه إلى عليّ أمير المونين عليه السلام حين بلغه خذلان أهل الكوفة وعصيانهم إياه :
بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لعبد اللّه عليّ أمير المونين ، من عَقِيل بن أبي طالب : سلامٌ عليكَ فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فَإنَّ اللّه َ حارِسُكَ مِن كُلِّ سُوءٍ وعاصِمُكَ من كلِّ مَكروهٍ وعلى كُلِّ حالٍ ؛ إني خَرَجْتُ إلى مَكَّةَ مُعتَمِرا فَلَقِيتُ عَبْدَ اللّه ِ بنَ سَعْدِ بنِ أبي سَرْحٍ في نحوٍ مِن أربَعِينَ شابَّا مِن أبناءِ الطُّلَقاءِ فَعَرفْتُ المُنكرَ في وُجُوهِهِم ، فقلت لهم : إلى أيْنَ يا أبناءَ الشَّانِئينَ ؟ أبِمُعاوِيَةَ تَلحَقُونَ ؟ عداوة واللّه ِ مِنكُم قَدِيما غير مُستَنْكَرةٍ ، تُريدونَ بِها إطفاءَ نُورِ اللّه ِ وتَبدِيلِ أمرِهِ ، فأسمَعَنِي القَوْمُ وأَسمَعْتُهُم . فلمّا قَدِمْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ أهلَها يَتَحدَّثون أنَّ الضَّحَّاكَ بنَ قَيْسٍ أغار علَى الحِيرَةِ فاحتمَلَ من أموالهم ما شاء ، ثُمَّ انكفأ راجعا سالما ، فَأُفٍّ لحياةٍ في دَهْرٍ جَرَّأ عَلَيْكَ الضَّحَّاكَ ، وما الضَّحَّاكُ ؟ ! فقع بقرقر ، وقد توهَّمت حيث بلغني
ذلك ، أن شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليَّ يابن أمّي برأيك ، فَإن كنت الموت تريد تحمّلتُ إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا متّ ، فو اللّه ما أحبُّ أن أبقى في الدُّنيا بعدك فواقا ، وأقسم بالأعز الأجل أنَّ عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هنيء ولا مريء ولا نجيع ، والسَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللّه ِ وبَرَكاتُهُ .
فأجابه عليّ عليه السلام « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . . . » إلى آخر ما تقدم . ۸
كانت هذه الواقعة بعد الحكمين وقبل قتل الخوارج في النَّهروان ، ولكنَّ ظاهر كلام ابن قُتَيْبَة خلافه ، وإنّ المكاتبة كانت في أوّل خروجه عليه السلام من المدينة قبل حرب الجمل ، ولكنّه بعيد للغاية ؛ إذ غارة الضَّحَّاك كان بعد الحكمين قطعا ، وقد جمع في الكتاب ـ على نقل ابن قُتَيْبَة ـ بين إخباره عن خروج طَلْحَة والزُبَيْر وغارة الضَّحَّاك ۹ .
الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ أبو أنيس الَّذي اشترك مع معاوية في مظالمه وجناياته ، بل في مظالم يزيد بن معاوية أيضا ، إذ هو الَّذي مهّد الأمر لبيعة يزيد وأقعده على أريكة الحكومة الإسلاميّة ، وسلَّطه على المسلمين .
ولاّه معاوية الكوفة ثُمَّ عزله ثُمَّ ولاّه دمشق ، وشهد موت معاوية ، وصلّى عليه وبايع النَّاس ليزيد ، فلمّا مات يزيد بن معاوية ثُمَّ معاوية بن يزيد دعا الضَّحَّاك إلى نفسه ، ثُمَّ إلى ابن الزبير فقاتلَهُ مروان ، فقُتل الضَّحَّاك بمرج راهط .
وقال فيه عَقِيل رضى الله عنه عند معاوية : أما واللّه لقد كان أبوه جيّد الأخذ لِعَسبِ ۱۰ التُّيوس . . .
وكان عليّ عليه السلام يلعن جمعا منهم الضَّحَّاك بن قَيْس ؛ كان على شرطة معاوية ، وله في الحروب معه بلاء عظيم . وعلى كل حال ، كان الرَّجل من رجال حكومة معاوية ويزيد ، ومن مشيّدي بنيانها ودعائمها وأركانها . ۱۱

1.وقعة صفِّين : ص۴۸۹ ـ ۴۹۰ وراجع :بحار الأنوار : ج۳۲ ص۵۳۲ ؛ تاريخ الطبري :ج۵ ص۴۸ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۳۸۶ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۲ ص۲۱۶ ، مروج الذهب : ج۲ ص۴۰۱ .

2.الفواق ، بالضم وبالفتح : ما بين الحلبتين ، يقال : انظروني فواق ناقة .

3.الأبْضُ : السُّكونُ . ( لسان العرب : ج ۷ ص ۱۱۰ ).

4.وقعة صفِّين : ص۴۹۰ ـ ۴۹۲ ، بحار الأنوار : ج۳۲ ص۵۳۳ ـ ۵۳۵ وراجع : تاريخ الطبري : ج۵ ص۴۹ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۳۸۷ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۲ ص۲۱۹ .

5.وقعة صفِّين : ص۴۹۹ ـ ۵۰۰ ، بحار الأنوار : ج۳۲ ص۵۳۹ ـ ۵۴۰ وراجع : تاريخ الطبري : ج۵ ص۴۸ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۳۸۶ و۳۸۷ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد :ج۲ ص۲۲۸ ، الفتوح : ج۴ ص۱۹۷ ، مروج الذَّهب : ج۲ ص۴۰۲ .

6.وقعة صفِّين : ص۵۰۸ ـ ۵۰۹ وراجع : الإرشاد : ج۱ ص۱۱۹ ـ ۱۲۱ ، الأمالي للطوسي : ص۱۷۸ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج۳ ص۱۸۳ و۱۸۴ ، تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۱۸۹ ، بحار الأنوار : ج۲۰ ص۳۳۵ و۳۵۳ و۳۵۷ و۳۵۹ و۳۶۲ ؛ تاريخ الطبري : ج۵ ص۵۲ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۳۸۸ ، الأخبار الطوال : ص۱۹۴ ، الفتوح : ج۴ ص۲۰۱ ، البداية والنهاية : ج۷ ص۲۷۷ .

7.المعيار والموازنة : ص۹۸ .

8.الغارات : ج۲ ص ۴۱۶ ـ ۴۳۱ ، بحار الأنوار : ج۳۴ ص۳۱ ـ ۲۸ ح۹۰۴ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۲ ص۱۱۹ ـ ۱۱۳ ، الأغاني : ج۱۶ ص۲۸۹ ، الإمامة والسياسة : ج۱ ص۷۴ وراجع :أنساب الأشراف : ج۲ ص۸۳۱ ـ ۳۳۲ .

9.راجع : الإمامة والسياسة : ج۱ ص۹۸ ؛ قاموس الرجال : ج۵ ص۵۳۵ .

10.عسبُ الفحل : اُجرة ضرابه (مجمع البحرين : ج ۲ ص ۱۲۱۳ «عَسَبَ» ) .

11.راجع : المعارف لابن قتيبة : ص۴۱۲ ، الإصابة : ج۳ ص ۳۸۸ ـ ۳۸۹ ، الاستيعاب : ج۲ ص۲۹۷ ـ ۲۹۸ ، أسد الغابة : ج۳ ص۵۰ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۶ ص ۱۵۷ ـ ۱۶۳ ؛ قاموس الرجال : ج۵ ص۵۳۴ .

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج1
    المساعدون :
    فرجي، مجتبي
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 107644
الصفحه من 568
طباعه  ارسل الي